105
الشريف المرتضى و المعتزلة

أداء تكاليفه، وتمنعه من الإخلال بها، ومن فعل القبائح. وهذا يعني أنّ من يكون حائزاً على هذه العلوم يكون جديراً بتوجيه التكاليف إليه، وقادراً على القيام بما كلّف به، وبذلك يسمّى عاقلاً. بينما من كان فاقداً لهذه العلوم لا يصحّ تكليفه، ولا يمكنه القيام بأداء التكاليف كالآخرين، وبذلك لا يسمّى عاقلاً. إذن مجموع تلك العلوم عبارة عن العقل، والعقل عبارة عن مجموع تلك العلوم۱!!

قد يصاب القارئ في الوهلة الأولى بالدهشة والاستغراب، فما هو ارتباط تلك العلوم بالعقل؟! أليس العقل عبارة عن أداة معرفية قادرة على استنباط العلوم؟ فالعقل الذي كنّا نعرفه إلى الآن عبارة عن قوّة وقدرة يتمكّن العاقل بواسطتها من تمييز الصحيح من الخطأ، والحسن من القبيح، كما ذهب إليه بعض المتكلّمين۲؟

صحيح أنّ هذا الاستغراب معقول ومفهوم، ولكن للمرتضى مبرّراته التي دعته إلى تعريف العقل بذلك، أي «مجموعة من العلوم»، فهو قد رجع إلى العُرف والوجدان، وَوَجَد أنّ كلّ من يستطيع أن يضبط سلوكه، ويميّز القبيح من الحسن، ويَفهم ما يقال له، فإنّ العُرف يسمّيه عاقلاً، ومن ليس كذلك لا يوصف بأنّه عاقل، بل جاهل. وملاحظة سلوك العُرف والمجتمع يؤيّد ذلك، فالمجتمع لا يسمّي من كان سفيهاً أو معتوهاً بحيث لا يميّز الصحيح من الخطأ، والخير من الشر، ولا يتمكّن من الاستدلال على شيء، لا يسمّيه عاقلاً، بل جاهل، وفي المقابل يسمّي من يمتلك تلك القدرات عاقلاً۳.

وهذا المعنى للعقل لا يتعارض مع المعنى اللّغوي له، بل يتلاقى معه؛ فالعقل في

1.. المصدر السابق، ص۱۲۱-۱۲۳.

2.. المفيد، الحكايات، ص۲۲.

3.. إنّ هذه الظاهرة معروفة ومتداولة حتى في بعض اللهجات العربية الدارجة المعاصرة، مثل اللهجة العراقية الدارجة، فالعراقيون يسمّون الطفل غير المكلّف الذي لا يميّز الصحيح من الخطأ، والحسن من القبيح، ولا يمارس سلوكاً منضبطاً، يسمّونه: «جاهِل»، ويجمعونه على «جَهَال»- بفتح الجيم والهاء - ، فيقولون: «إشلون الجَهَال؟»، أي: «كيف حال الأطفال؟». وفي المقابل، إذا رأوا طفلاً مشاكساً، وذا سلوك غير منضبط، فعندما يريدون أن يأمروه بالهدوء والجلوس والانضباط، يقولون له: «صِيرْ عاقِل»، أي: «كن عاقلاً». فهُم يسمّون مَن كان له سلوك منضبط، ويَفهم ما يقال له بأنّه: «عاقل».


الشريف المرتضى و المعتزلة
104

والعلم به، وتارة قد يكون المكلّف به هو نفس العلم، فهناك إذن تكاليف علمية كلّف بها الإنسان، مثل معرفة الله تعالى. ومثلُ هذه المعارف تتطلّب علوماً تكون مقدّمة لها، فمن دون تحقّق هذه العلوم المُقدّمية، يغدو التكليف بالمعرفة غير مقدور، فيكون تكليفاً بما لا يطاق أيضاً، وهو قبيح كما تقدّم.

إنّ اشتراط وجود العلم ببعض العلوم في التكليف يشبه اشتراط وجود القدرة في التكليف؛ فإنّ فاقد القدرة على الصيام يقبح تكليفه به، كما أنّ فاقد العلوم الأوّلية التي تساعد على معرفة الله تعالى مثلاً يقبح تكليفه بمعرفته تعالى؛ لأنّه عاجز عن ذلك، فهو كالطفل الذي لا يميّز الاستدلال الصحيح من الخطأ، فيقبح تكليفه بالنظر. إذن لكي يصحّ التكليف باكتساب المعارف، ينبغي أن يكون المكلّف حائزاً على مجموعة من العلوم.

وهذه العلوم غير محصورة بعدد، لكن يمكن حصرها بالصفة، وقد حُصرت في ثلاثة أقسام:

الأوّل: العلم بأصول الأدلّة، مثل العلم بأحوال الأجسام المتغيّرة، كالحركة والسكون، والقرب والبُعد، والعلم باستحالة خلوّ الذات من النفي والإثبات المتقابلين.

الثاني: ما لا يتمّ العلم بتلك الأصول إلّا به، مثل العلم بالعادات من أصول الأدلّة الشرعية.

الثالث: ما لا يتمّ الغرض المطلوب إلّا به، مثل العلم بجهات المدح والذمّ والخوف؛ حتّى يصحّ خوفه من إهمال النظر۱.

إذن يشترط في المكلّف أن يكون عالماً بمجموعة من العلوم، وإلّا قبُح تكليفه. ونخلص من ذلك إلى القول بأنّه يشترط في المكلّف شرطان: القدرة، والعلم.

وفي هذه النقطة نرجع إلى أصل بحثنا الدائر حول تعريف العقل، ونتسائل: ما هو ارتباط كلّ هذه البحوث - حول شروط المكلّف - بتعريف العقل؟!

للإجابة على هذا التساؤل ينبغي القول: إنّ مجموع العلوم المتقدّمة والتي تمّ حصرها في ثلاثة أقسام، إذا دقّقنا فيها نجد أنّها تؤدّي إلى مساعدة المكلّف على

1.. المرتضى، الذريعة، ص۱۲۲.

  • نام منبع :
    الشريف المرتضى و المعتزلة
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    01/01/1399
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 1307
صفحه از 275
پرینت  ارسال به