111
الشريف المرتضى و المعتزلة

وعندما نقل لنا الشيخ المفيد اتّفاق الإمامية على هذه النظرية۱، والذي يظهر أنّه تبنّاها، لم يوضّح لنا ذلك السمع الذي ينبغي أن ينبّه العقل على العقائد وطرق الاستدلال عليها، فإنّ الإمام غائب، فكيف يمكن له أن ينبّه عقول الناس في عصر الغيبة على تلك الأمور؟ لقد كان الشيخ المفيد في الحقيقة يكتفي في هذه الحالة بالتنبيه من خلال الإجماع، والأخبار المتواترة، وأخبار الآحاد المحفوفة بقرينة قطعية.

ومن جهته حاول الشريف المرتضى أن يقوم بإعطاء نظرية حول علاقة العقل والسمع تتناسب مع عصر الغيبة، وتمكّنه من الإجابة على الإشكال المتقدّم على مسألة الحاجة إلى الإمام، والذي طرأ نتيجة حصول الغيبة، فقام بإنكار النظرية التي ذهب إليها الإمامية من أنّ الإمام هو الوحید الذي ينبّه على طريقة الاستدلال على العقائد، حيث ذكر أنّ التنبيه كما يحصل من الإمام فإنّه يحصل من غيره أيضاً، وليست للإمام من هذه الناحية مزية على غيره۲. وبذلك حافظ المرتضى على فكرة حاجة العقل إلى ما ينبّهه على طرق الاستدلال، وفي نفس الوقت لم يُعطِ هذا الدور كلّه للإمام، بل جعل الإمام كغيره من هذه الناحية، وبذلك دفع الإشكال القائل: إذا كان الإمام ينبّه العقل على طرق الاستدلال، فكيف يستطيع أن يقوم بهذه المهمّة في عصر الغيبة، وهو منقطع عن الناس؟ فمع وجود منبّه آخر غير الإمام، سوف يتنبّه العقل على كلّ حال، ولن يكون لعصر الغيبة أثر في الحدّ من هذا التنبيه.

إنّ المرتضى يعلم جيّداً أنّ تنبيه الإمام أفضل من تنبيه غيره، باعتباره ينبّه على العقائد الحقّة، وعلى أفضل الاستدلالات، ولو كان المرتضى يعيش في عصر الحضور لم يَعدِل بالإمام أحداً، ولذهب إلى ما ذهب إليه سائر الإمامية من حاجة العقل إلى السمع للتنبيه، لكنّ اقتضاءات الغيبة جعلته يجعل للإمام عِدلاً ونظيراً يقوم بمهمّة التنبيه، وهم العلماء والدعاة إلى الله تعالى وإلى المعارف الحقة.

1.. المفید، أوائل المقالات، ص۴۴.

2.. المرتضی، رسائل الشريف المرتضى (جوابات المسائل الرازية)، ج۱، ص۱۲۷ - ۱۲۸؛ المصدر السابق،(جوابات المسائل الرسّية الأولى)، ج۲، ص۳۳۰؛ المرتضی، الشافي في الإمامة، ج۱، ص۴۳، ۷۲ - ۷۳.


الشريف المرتضى و المعتزلة
110

الحاجة إلى الإمام، وسوف يصبح وجوده وعدمه سواء۱. وقد كان هذا النوع من الإشكالات يشكّل خطراً داهماً أخذ يهدّد الوجود الشيعي، الأمر الذي حتّم على متكلّمي الإمامية القيام بإعادة ترتيب البيت الشيعي من خلال إعادة النظر في الهدف من تعيين الإمام، ولو أدّى إلى شيء من التنازل عن الأهداف السابقة. وحالة تغيير بعض الترتيبات أمرٌ طبيعي في علم الكلام، وقد تلجأ إليه المدارس الكلامية في بعض الظروف الخاصّة.

وقد فرضت ظاهرة الغيبة نفسَها على علاقة العقل والسمع، فقد كان متكلّمو الإمامية يذهبون إلى أنّ معرفة العقائد - مثل معرفة الله تعالى، وباقي العقائد المتعلّقة بباب التوحيد والعدل - بحاجة إلى السمع الذي ينبّه العاقل على ضرورة النظر والاستدلال لمعرفة الله تعالى ومختلف العقائد، بل حتّى يرشده إلى طريقة الاستدلال. والذي يمثّل السمع لدى الإمامية بعد النبي صلی الله علیه و آله هم الأئمّة علیهم السّلام، فالإمام يرشد الإنسان إلى وجوب التفكير والبحث عن الله تعالى وسائر العقائد، وإلى الدليل المناسب الذي يمكن إقامته على ذلك۲. والظاهر أنّ الذي دعاهم إلى ذلك هو الاحتراز من الوقوع في مَطبّات أو جهالات، فلو أنّ العقل استقلّ عن الإمام، قد يؤدّي به التفكير إلى الإلحاد، أو الابتعاد عن الحق وعدم الوصول إليه، لكن إذا نظر في ما قدّمه له الإمام صار أقرب إلى الحقيقة منه إلى الجهل والباطل.

وبهذا أعطي الإمام دوراً مهمّاً في الهداية والقيادة المعرفية للأمّة، فهو يرشد أتباعه وينبّههم على العقائد الصحيحة. ولكن بعد حصول الغيبة وانقطاع الأمّة عن الإمام، غدى تحقيق هذه المهمّة أمراً عسيراً، بل متعذراً.

1.. انظر: المرتضی، الشافي في الإمامة، ج۱، ص۱۳۷، ۱۴۳-۱۴۴.

2.. وهذا في الحقيقة لا يعني إيجاد حالة من الجمود الفكري والاتّباع المحض لكلام الإمام، بل إنّ العقل عندما يرشده الإمام إلى كلّ ذلك، فإنّه يقوم بالتأمّل في كلام الإمام والدليل الذي أرشده إليه، فإن وجده مقنعاً آمن به، لا لأنّ الإمام قاله، بل لأنّ الدليل كان مقنعاً له، وإن لم يجده مقنعاً رفضه وردّه. وهذا يعني عين التحرّر الفكري، وليس فيه أيّ لون من ألوان الجمود أو الأسر الفكري.

  • نام منبع :
    الشريف المرتضى و المعتزلة
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    01/01/1399
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 1278
صفحه از 275
پرینت  ارسال به