293
الرواشح السماوية

الاتّصال بعالم القدس ، طفيفة الالتفات إلى عالم الحسّ ، ومتخيّلة خالصة الطاعة لنفسه القدسيّة جدّا في الاحتراق إلى عالم العقل والانخراط في سلك الأنوار العقليّة ، قوّيةِ التلقّي من سماء عالم الغيب ، قليلةِ الانغماس في ظلمات أرض الجسد ومضلاّت القلب من سبيل الظاهر ، بحيث لاتشغلها المحسوسات الظاهرة عن أفعالها الخاصّة الملكوتيّة ، وتخيّلاتها الصادقة الحقيقية ، فليس ۱ بمستغرَب أن يتيسّر لذلك المتقدّس ـ وهو في صريح اليقظة الحقّة ، لا في شبه نوم ، ولا في شبه سِنَةٍ ـ أن يتّصل بعالم النور ، ويصيرَ إلى عالم الغيب ، فيتلقّى رُوعُه من روح القدس ويطالعَ شيئا من الملكوت ، ويتمثّلَ لقوّته المتخيّلة العقولُ المفارقه العِلْويّه ، والنفوس العاقلة السماويّة أشباحا مصوّرةً منطبعة في حسّه المشترك على سبيل الانحدار إليه من سبيل الباطن من عالم الملكوت ، فيراها متمثّلةً حاضرة ، ويسمعَ منها كلاما مرتّبا منظوما من دون التأدية من مسلك الجليديّة وسبيل الصماخ ؛ وإذ للعقل الفعّال زيادة اختصاص واعتناء بالرَِشح على ما في عالم العناصر ، فأكثر ما يتّفق ذلك له من تلقائه ، فيتمثّل له ويخاطبه ويُسمعه كلاما مسموعا منظوما يُحفَظ ويُتلى ، ويكون هو من قبل اللّه تعالى وملائكته المقرّبين لا من شخص إنساني ، ولا من حيوان أرضي .
فهذا حقيقة الوحي على ما قد أدّت إليه الأُصول العقليّة ، والقوانين الحِكْميّة . واللّه عنده علم الكتاب وكُنه الحكمة ، وسرّ الغيب وملكوت الحقيقة .
ثمّ إنّ للوحي مراتبَ مختلفةً ، وضروبا متنوّعة بحسب اختلاف أحوال النفس ومقاماتها ، وأحاينيها وأوقاتها .
فمن المتكرّر الثابت في الحديث أنّه صلى الله عليه و آله كثيرا مّا كان يرى جبرئيل عليه السلام ، وهو متشبّح له في صورة دحية الكلبي . ۲
وفيه : أنّ الحارث بن هشام ـ رضي اللّه عنه ـ سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله : كيف يأتيك

1.جواب إذا .

2.الدرّ المنثور ۱ : ۲۲۷ في تفسير الآية ۹۸ من البقرة .


الرواشح السماوية
292

والحديث القدسي كلام يوحى إلى النبيّ معناه فيجري اللّه على لسانه في العبارة عنه ألفاظا مخصوصةً في ترتيب مخصوص ، ليس للنبيّ أن يبدّلها ألفاظا غيرها ، أو ترتيبا غيره .
والحديث النبوي كلام معناه ممّا يوحى إلى النبيّ فيعبّر عنه ب : «حيث يشاء» «كيف يشاء» .
وسرّ الأمر أنّ النفس النقيّة الطاهرة الإنسانيّة ، إذا ما كانت بالغةً نصابَ الكمال بحسب قوّتها القدسيّة ؛ ـ لصفاء جوهرها وقلّة التفاتها إلى الأُمور الحسّانية الجاذبة إيّاها إلى الجنبة السافلة ، وشدّة اتّصالها بالمبادئ العالية المنتقشة بحقائق المعقولات وصور الكائنات ، ماضيها وغابرها وآتيها وحاضرِها ـ تكون بحيث تستنير بأضوائها ، وتنطبع بما فيها كمرآةٍ مجلوّة حوذي بها شطرُ الشمس ، فيحصل لها ما يمكن للنوع دفعةً أو قريبا من دفعة ؛ إذ لابخل في صقع الرشح والإفاضة ، ولا احتجاب في معدن النور والرحمة . وإنّما المانع انجذاب القوابل إلى عالم الطبيعة وانغماسها في الشواغل عن عالم العقل . وقد ارتفعت الغواسق من جهة المستضيء القابل ، فالقوّة المتخيّلة أيضا تكون حينئذٍ طائعةً للقوّة العاقلة ، مشايعةً إيّاها في الصعود إلى معارج القدس ، فتكون بحيث تتمثّل لها العقُول المجرّدة ـ ولا سيّما روح القدس ـ صورا بشريّةً وأشباحا إنسانيّة يخاطبونها ويُسمعونها كلاما منظوما محفوظا ، كما [أنّ] القوّة المحرّكة تصير بحيث تطيعها هيولى أُسطقسّات العناصر طاعةَ البدن للنفس ، فتتصرّف فيها تصرُّفَها فيه . فإذن كما [أنّ] النائم ومن يجري مجراه في بطلان استيلاء الحواسّ وسلطانها عليه ، وامّحاق انغساقه بها وانغماره فيها قد يشاهد صورا عجيبة ، ويسمع ألحانا غريبة ليست هي بمعدومة صرفة ولا بموجودة في الخارج ، بل ملقاة في قوّته المتخيّلة وحسّه المشترك ، لامؤدّاة إليهما من طرق الحواسّ الظاهرة ، بل من سبيل الباطن ومن عالم آخَرَ .
فكذلك الإنسان المتألّه المتقدّس إذا كان ذا نفس شريفة الجوهر ، شديدة

  • نام منبع :
    الرواشح السماوية
    سایر پدیدآورندگان :
    محمدباقر حسین استرآبادی، تحقیق: نعمت الله جلیلی، غلامحسین قیصریه ها
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1380
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 2345
صفحه از 360
پرینت  ارسال به