جنسه ما يضاهيه أو يدانيه ، وكلّما ازدادت أرواع أُولي الأحلام في أفانين مدارجه بصيرةً ، ازداد ما عداه ـ ممّا يشاركه في جنسه ـ عنه بُعدا وسقوطا ونَأْيا وهبوطا .
وكذلك فيما ورد عن سادتنا الطاهرين أُمناء سرّاللّه ، وتراجِمة وحيه ، وسفراء ۱ غيبه ، وألسنة أمره ونهيه ـ صلوات اللّه وتسليماته على أرواحهم القادسة ، وأجسادهم الطاهرة ـ في دقائق الحكمة ، وحقائق التوحيد ، ولاسيّما ما سبيله ذلك عن باب اللّه الصافق ، وكتابه الناطق ، أمين الرحمن ، وشريك القرآن ، الذي مثابتُه من العقلاء والأصفياء مثابة الأحداق من الرؤوس ، ونسبته إلى العلماء والحكماء نسبة المعقول إلى المحسوس ، أميرِ المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، بابِ أبواب المقاصد والمطالب ، أبي السبطين عليِّ بنِ أبي طالب ـ عليه من الصلوات نواميها ، ومن التسليمات أناميها ـ في خطبه وأثنِيَته وأحاديثه وأدعيته على أساليبَ وَحيانيّةٍ ، وموازينَ فرقانيّة ، في بلاغة تَحارفيها الأفهام ، وبراعة تدهش منها الأحلام ، ألْمَعِ المعجزات وأبهرِ الدلائل على الرسالة والسفارة ، وأسطع الحجج وأنور البراهين على الوصاية والوراثة ؛ لما فيها من غامضات العلوم ، ومَحارات ۲ العلماء ، واُمّهات الحكمة ، واصطلاحاتِ الحكماء ، مع أنّهم عليهم السلام لم يختلفوا إلى محتشَدِ أريبٍ ، ولا احتشدوا في محتفَل الأخذ عن أديب ، ولا كانت العلوم في عصرهم مدوّنةً ، ولا كتب الحكمة في زمنهم مُتَرْجَمةً . ۳ أُولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعَتْنا يا جرير ! المجامعُ ۴
وإنّ كتاب الكافي لشيخ الدين ، وأمين الإسلام ، نبيه الفرقة ، ووجيه الطائفة ، رئيس المحدّثين ، حجّة الفقه والعلم والحقّ واليقين ، أبي جعفر محمّد بن يعقوبَ بنِ إسحاقَ الكليني ـ رفع اللّه درجته في الصدّيقين ، وألحقه بنبيّه وأئمّته الطاهرين ـ قد حوى من ذلك طَسْقا ۵ وافيا ، وقسطا كافيا ، ولم يكن يتهيّأُ لأحد من الفقهاء والعلماء والعقلاء والحكماء من عصر تصنيفه إلى زمننا هذا ـ والمدّةُ سبعمائة سنةٍ ـ أن يتعاطى حلَّ غوامضه ، وشرْح مغامضه ، ويتفرّغَ لتفسير مبهماته ، وتحرير مهيِّماته مع ما تُرى الأفئدةُ في الأدوار والأعصار هاويةً إليه ، والأكبادُ في الأقطار والأمصار هائمةً عليه ؛ إذ كان دخول ذلك في مُنّة ۶ الميسرة ، وقوّة المقدُرة محوجا إلى أن يكون المرء في جوهر نفسه بحسب فطرته الأُولى المفطورةِ مطبوعا على قريحة سماويّة ، وفطرة ملكوتيّة ، وغريزة عقلانيّة ، وجبلّة قُدْسانيّة .
ثمّ إذا هو في فطرته الثانية ـ المكسوبة من كلّ علم من العلوم العقليّة والنقليّة والحِكميّة والشرعيّة الأصليّة والفرعيّة على النصاب الأتمّ ، والنصيب الأوفر ـ ذا تدبّر وَمِيض ، وتتبّع عريض ، غزيرَ المراجعات ، كثيرَ المباحثات ، قد راجع وروجع ، وناظر ونوظر دهرا صالحا ، وأمدا طويلاً ، مجتهدا في إبلاغ قوّتَيْهِ العاقلةِ والعاملة ميقاتَهما من الكمال ، وإسباغِ شطريه النظري والعملي في كفّتي ميزان الاستكمال ، ومع تِيكَ وتِيكَ وذا وذا ، ذا خلوات وخَلَسات ۷ في مجاهَدات قلبيّة ، ومراصَداتٍ
1.في حاشية«أ» : «السفير: الرسول والمصلح بين القوم ، والجمع السفراء . والسفرة : الكتبة». كما في لسان العرب ۴ : ۳۷۰ ، (س . ف . ر).
2.في حاشية «ب» : «محارات : محلّ الحيرة» .
3.في حواشي النسخ : «بداءة نقل كتب الفلسفة من اللغة اليونانيّة إلى لغة العرب كانت في أواخر عصر مولانا أبي عبداللّه الصادق عليه السلام . وقال شيخ الطائفة في الفهرست والنجاشي في كتابه : إنّ شيخ الإماميّة الفيلسوف الحكيم المبرّز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها أبا محمّد الحسن بن موسى النوبختي ـ ابن أُخت أبي السهل بن نوبخت ـ كان يجتمع عليه جماعة من نَقَلَة كتب الفلسفة مثل : أبي عثمان الدمشقي ، وإسحاق وثابت وغيرهم . (منه مدّ ظلّه العالي)» .
راجع الفهرست : ۹۶ / ۱۶۱ ؛ ورجال النجاشي : ۶۳ / ۱۴۸ .
4.ديوان الفرزدق : ۳۰۶ .
5.في حاشية «أ» : «الطسق : الوظيفة من خراج الأرض» . كما في لسان العرب ۱۰ : ۲۲۵ ، (ط . س . ق) .
6.في حاشية «أ» : «المُنَّة : القوّة» . كما في لسان العرب ۱۳ : ۴۱۵ ، (م . ن . ن) .
7.في حواشي النسخ : «الخَلَسات ـ بالتحريك ـ جمع الخَلْسة ـ بالفتح ـ وهي المرّة الواحدة من مرّات الاختلاس . وفي عرف العرفاء والمحقّقين : هي مرتبة من مراتب النفس في أضعاف مقامات العارفين ، بحسب درجاتها في رفض الحواسّ ، وخلع الجلباب الجسداني .
وأمّا الخُلسة ـ بالضمّ ـ فاسم ما يُختلس ويُختطف ، ومنه قولهم : الخُلسة فرصة ، ومن هناك سمّينا كتابنا خُلسة الملكوت ، فأمّا قولنا في ديباجة «الصراط المستقيم» : في خَلَسات فهي أيضا بالتحريك جمع الخَلْسة ـ بالفتح ـ على المعنى الاصطلاحي كما هاهنا . وجمع الخُلسة ـ بالضمّ ـ الخُلُسات بضمّتين كشُبُهات في شبهة . (منه مدّظلّه العالي)» .