الفكر وتعميق النظر بعد محن أصل التحصيل ـ على طغياء عمياء يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه». وقد بالغ في الوصف بعد ذلك .
وبالجملة استمرّ تحصيله عند هذا السيّد الممجّد مع تحمّل الشدائد التي لا تتحمّل، ولكنّه تحمّلها كما تحمّل نظائرها حتّى ظفر بالمراتب العلمية واستقلّ بالتصنيف، وشرع في كتاب البشارات الذي لم يُرَ نظيره، وقد أنهاه في ثلاثة مجلّدات ولم يبلغ الأربعين من عمره.
وكان بناؤه في التصنيف هي طريقة المحقّقين، وهي قلّة التصنيف مع كثرة التحقيق، كما ينقل عن صاحب المدارك وصاحب المعالم.
وبالجملة فقد كان يقول : «كنت أتأمّل في بعض المطالب أيّاما من غير أن أكتب شيئا،وقد تأمّلت شهرين فيكتابة ورقتين منالبشارات». ولذا صارت تصانيفه فائقة على غيرها،حاوية لمطالب مختصّة بها مع طول الذيل المبني على التصرّفات الدقيقة والتأمّلات الرشيقة والتتبّعات الوافرة، يذكر المقدّمات قبل الخوض فيها، والتنبيهات بعد الخوض فيها لكي لا يغادر مجهولاً أو مبهما أو مجملاً.
كثرة تفكّره واهتمامه :
كان أبو المعالي دائبا مفكّرا في المطالب العلمية حتّى عند الاشتغال بالأكل أو حتى في الحمّام، وكثيرا ما كان يأمر وَلَده بكتابة عبارة من موضع مطالعته، سواء من عبارات نفسه أو سائر العلماء ويستصبحها في الحمّام، ويظل يفكّر فيها. وربما كتب في هذا الحال ما يخطر بباله الشريف، فقد يرى في بعض مسوّداته آثار الحناء.
قال في آخر الرسالة التي ألّفها في لفظة «ثقة» وغيرها : «كنت متشاغلاً بالتفكّر في حال المشي حتى في الليالي، وكذا حين كلام الغير معي، بل كنت كلّما تيقّظت من النوم أتوجّه إلى الفكر بمجرّد التيقّظ، بل كنت كلّما انقلبت في النوم من شقّ إلى شقّ أتوجّه إلى الفكر».
ومن جراء ذلك ابتلي بضعف القلب المفرط، وكان يعود عليه هذا المرض