143
الحاشية علي اصول الكافي( العاملي)

فقد علم من ذلك أنّ العقل مبنى كلّ سعادة وسلامة ، وأصل كلّ نعمة وراحة كما نبَّه عليه بقوله عليه السلام : « يا هشام ! من أراد الغناء بلا مال » .

قال عليه السلام : يا هشام ! من أراد الغناء .
أقول : توضيحه على نظمه هو أنّ من كمل عقله وقوي سرّه ، كان شغله باللّه واُنسه مع اللّه ونعيمه بما يرد عليه من اللذّات العقليّة المُبهجة ، والجذبات الحقّة الإلهيّة ، فيقنع من الدنيا بأدنى شيء نعيم بدنه ، ومن نقص عقله وأفلس باطنه وروعه عن العلم والمعرفة ، طلب الغنى والنعمة من الحظوظ الفانية المادّيّة ، ولم يعلم أنّ الدنيا وزينتها إلى فناء ، وصورها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً ، فالعاقل يقنع منها بالكفاية ، ويستغني بالحقّ من الخلق ، والجاهل لا يقنع بالكفاية إذا سدّت عليه الطرق إلاّ إلى الدنيا ؛ لاحتجابه بها عن الحقّ، وبالهوى عن الهدى ، فيريد أن يدرك الغناء بالدنيا ولم يدركه أبداً .
فقد ظهر سرّ ما أمر به عليه السلام الدعاء والتضرّع إليه تعالى في طلب تكميل العقل لمن أراد الغناء بلا مال .
قال عليه السلام : حين علموا أنّ القلوب تزيغ . [ ص۱۸ ح۱۲ ]
أقول : لا شبهة في أنّ أصل السعادة الحقيقيّة للعبد أن يكون عقله مستفاداً من اللّه ، وفي أنّ الظاهر عنوان الباطن ، والأعمالَ حكاية الأحوال .
ثمّ اعلم أنّ المؤمن إذا لم يكن قلبه منوّراً بنور اللّه سبحانه ، وعقله مهتدياً بهداه ، لا يكون آمناً من الزيغ والضلالة ، والعمى عن الحقّ بعد الإجابة ، والارتدادِ بعد قبول الدعوة ، والتردّي إلى المهوى الأسفل عقيب الطاعة كما في قوله تعالى : « وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ » ۱ ، وكقوله : « ذَ لِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ » ۲ ، وقوله : « وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ » ۳ .

1.الأعراف (۷) : ۱۷۶ .

2.المنافقون (۶۳) : ۳ .

3.البقرة (۲) : ۲۱۷ .


الحاشية علي اصول الكافي( العاملي)
142

قال عليه السلام : إنّ الدنيا طالبة مطلوبة . [ ص۱۸ ح۱۲ ]
أقول : توضيحه بأمرين :
أحدهما : أنّ رزق الدنيا ونَصيبَ الإنسان منها لا يتعلّق بكسبه وسعيه ، بل هو مقدّر مضمون يصل إليه سواء اختاره أو لا ، وسواء تعب وكدّ في تحصيله أو لا .
وإليه الإشارة بقوله تعالى : « وَ فِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ » ۱ .
بعض الفلاسفة على أنّ الدنيا دار إنفاق بخلاف رزق الآخرة ونعيم الإنسان أو عذابه منها ؛ فإنّه يتعلّق لا محالة بسعيه وكسبه « لَّيْسَ لِلاْءِنسَـنِ إِلاَّ مَا سَعَى » ۲ ، وذلك لأنّ كلّ ما يصل إليه فهو صور أخلاقه ، وتبعات صفاته وأفعاله ، ليس بخارج عنه ، وارد عليه كما يستفاد من معرفة أحواله .
وثانيهما : أنّ كلاًّ من الدنيا والآخرة طالبة لمن مطلوبه الاُخرى بوجه دون وجه ، فكلّ منهما طالبة حين كون الاُخرى مطلوبةً بوجه من الطلب ، فمن طلب الآخرة وسعى في تحصيلها ، فله الآخرة لا محالة لقوله تعالى : « وَ مَنْ أَرَادَ الْأَخِرَةَ وَ سَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا » ۳ ، ومع ذلك طلبته الدنيا ليستوفي رزقها ، إنّ الرزق المقدّر يصل إلى الإنسان سواء طلبه أو لا ، ومن طلب الدنيا وسعى لها سعيها الذي لا فائدة فيه، طلبته الآخرة ليستوفي أجلها ؛ إذ الأجل أيضاً كالرزق مقدَّر مكتوب ، فيأتيه الموت وعند ذلك تفسد دنياه ؛ لانقطاعها ، وتفسد آخرته ؛ لأنّ اكتسابها لا يمكن بعد الموت .
فثبت أنّ من طلب الآخرة كانت له الدنيا والآخرة جميعاً ، ومن طلب الدنيا زيادةً على ما هو المكتوب لم يكن له الدنيا ولا الآخرة .
فقد ظهر أنّ العقلاء إذا تيقّنوا ما ذكرنا يجب أن يزهدوا عن الدنيا ويرغبوا في الآخرة فهم السعداء في الدارين ، والفائزون بكرامتين .

1.الذّاريات (۵۱) : ۲۲ .

2.النجم (۵۳) : ۳۹ .

3.الإسراء (۱۷) : ۱۹ .

  • نام منبع :
    الحاشية علي اصول الكافي( العاملي)
    سایر پدیدآورندگان :
    تالیف: أحمد بن زين العابدين العلوي العاملي؛ تحقیق: نعمة الله الجليلي؛ با همکاری: مسلم مهدي زاده
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 6513
صفحه از 476
پرینت  ارسال به