فقد علم من ذلك أنّ العقل مبنى كلّ سعادة وسلامة ، وأصل كلّ نعمة وراحة كما نبَّه عليه بقوله عليه السلام : « يا هشام ! من أراد الغناء بلا مال » .
قال عليه السلام : يا هشام ! من أراد الغناء .
أقول : توضيحه على نظمه هو أنّ من كمل عقله وقوي سرّه ، كان شغله باللّه واُنسه مع اللّه ونعيمه بما يرد عليه من اللذّات العقليّة المُبهجة ، والجذبات الحقّة الإلهيّة ، فيقنع من الدنيا بأدنى شيء نعيم بدنه ، ومن نقص عقله وأفلس باطنه وروعه عن العلم والمعرفة ، طلب الغنى والنعمة من الحظوظ الفانية المادّيّة ، ولم يعلم أنّ الدنيا وزينتها إلى فناء ، وصورها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً ، فالعاقل يقنع منها بالكفاية ، ويستغني بالحقّ من الخلق ، والجاهل لا يقنع بالكفاية إذا سدّت عليه الطرق إلاّ إلى الدنيا ؛ لاحتجابه بها عن الحقّ، وبالهوى عن الهدى ، فيريد أن يدرك الغناء بالدنيا ولم يدركه أبداً .
فقد ظهر سرّ ما أمر به عليه السلام الدعاء والتضرّع إليه تعالى في طلب تكميل العقل لمن أراد الغناء بلا مال .
قال عليه السلام : حين علموا أنّ القلوب تزيغ . [ ص۱۸ ح۱۲ ]
أقول : لا شبهة في أنّ أصل السعادة الحقيقيّة للعبد أن يكون عقله مستفاداً من اللّه ، وفي أنّ الظاهر عنوان الباطن ، والأعمالَ حكاية الأحوال .
ثمّ اعلم أنّ المؤمن إذا لم يكن قلبه منوّراً بنور اللّه سبحانه ، وعقله مهتدياً بهداه ، لا يكون آمناً من الزيغ والضلالة ، والعمى عن الحقّ بعد الإجابة ، والارتدادِ بعد قبول الدعوة ، والتردّي إلى المهوى الأسفل عقيب الطاعة كما في قوله تعالى : « وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ » ۱ ، وكقوله : « ذَ لِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ » ۲ ، وقوله : « وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ » ۳ .