فإذا تمهّد هذا ، فنقول : إنّ قوله عليه السلام : «فمن عقل عن اللّه ، اعتزل أهل الدنيا» محمول على أنّ عقل الإنسان إذا بلغ إلى حدّ يأخذ العلم من اللّه تعالى بغير تعليم بشري إمّا بحسب الفطرة الأصليّة كما للأنبياء عليهم السلام ، أو بعد مجاهدات قدسيّة ، وإشراقات عقليّة ، ورياضات علميّة وعمليّة ، فقد اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها حيث لم يبق له رغبة فيها وأهلِها، ويرغب فيما عند اللّه من الخيرات الحقيقيّة ، والإشراقات الإلهيّة ، والأنوار القدسيّة ، والابتهاجات الذوقيّة ، والفتوحات الإلهيّة .
وعند ذلك كان اللّه تعالى اُنسه في الوحشة ، إذ موجب الوحشة في الوحدة فَقْدُ المألوفات الوجوديّة ، وخلوّ الذات عن الفضيلة والخير ، وأنّه تعالى منبع كلّ خير ، ومبدأ كلّ فيض ، فإنّما يتشعّب وينشأ منه تعالى على الأشياء ، من رجع إلى اللّه تعالى يأخذ ويستفيض من رحمته كلَّ ما يريد ، من كان للّه كان اللّه له ، فيكونَ صاحبَه في الوحدة ، فيصير وحده عينَ الجمعيّة وغناه في العيلة ؛ لأنّ فقره ليس إلاّ إليه ، ومن كان فقره إليه لا غير ، كان غناه به لا غير ، وكان اللّه معزّه من غير عشيرة ؛ إذ العزّة بالعشيرة والنسب عزّة مجازيّة ، والعزيز بالحقيقة من أعزّه اللّه بعزّته التي لا مثل لها ولا نظير .
ولعلّ ما في هذا الكلام نوع إيماء إلى الخبر المشهور في قرب الفرائض وقرب النوافل ، فتدبّر .
قال عليه السلام : نصب الحقّ . [ ص۱۷ ح۱۲ ]
أقول : إمّا على البناء للمفعول أو للفاعل لكن بارتكاب حذف المفعول أي نصب الحقّ الخلقَ .
قال عليه السلام : ولا نجاة إلاّ بالطاعة . [ ص۱۷ ح۱۲ ]
أقول : لأنّ الإنسان في بدو غريزته وفطرته العنصريّة جوهر ظلماني من عالم الهيولى الظالم أهلُها ، مخلوق من موادّ عالم الظلمات ووسخ الطبيعة ، وإنّما يصير بالتصفية والتهذيب والتأديب إلى العالم الأعلى كما في قوله : « أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَـهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ » ۱ .