۱۱ / ۵
إخبارُ أميرِ المُؤمِنينَ علیه السلام بِكَثرَةِ وَضعِ الحَديثِ بَعدَهُ
۷۷۵.الإمام عليّ عليهالسلام: إنَّهُ سَيَأتي عَلَيكُم مِن بَعدي زَمانٌ لَيسَ في ذلِكَ الزَّمانِ شَيءٌ أخفى مِنَ الحَقِّ، ولا أظهَرَ مِنَ الباطِلِ، ولا أكثَرَ مِنَ الكَذِبِ عَلَى اللّهِ تَعالى ورَسولِهِ صلىاللهعليهوآله.۱
۷۷۶.شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديدـ في وَضعِ الحَديثِ ـ: قَد كانَ في أيّامِ الرَّسولِ صلىاللهعليهوآله مُنافِقونَ، وبَقوا بَعدَهُ، ولَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ: إنَّ النِّفاقَ ماتَ بِمَوتِهِ. وَالسَّبَبُ في استِتارِ حالِهِم بَعدَهُ أنَّهُ صلىاللهعليهوآله كانَ لا يَزالُ بِذَكرهم بِما يَنزِلُ عَلَيهِ مِنَ القُرآنِ ؛ فَإِنَّهُ مَشحونٌ بِذِكرِهِم، أ لا تَرى أنَّ أكثَرَ ما نَزَلَ بِالمَدينَةِ مِنَ القُرآنِ مَملوءٌ بِذِكرِ المُنافِقينَ ؟! فَكانَ السَّبَبُ فِي انتِشارِ ذِكرِهِم وأحوالِهِم وحَرَكاتِهِم هُوَ القُرآنَ، فَلَمَّا انقَطَعَ الوَحيُ بِمَوتِهِ صلىاللهعليهوآله لَم يَبقَ مَن يَنعى عَلَيهِم سَقطاتِهِم، ويُوَبِّخُهُم عَلى أعمالِهِم، ويَأمُرُ بِالحَذَرِ مِنهُم، ويُجاهِرُهُم تارَةً ويُجامِلُهُم تارَةً، وصارَ المُتَوَلّي لِلأَمرِ بَعدَهُ يَحمِلُ النّاسَ كُلَّهُم عَلى كاهِلِ المُجامَلَةِ، ويُعامِلُهُم بِالظّاهِرِ، وهُوَ الواجِبُ في حُكمِ الشَّرعِ وَالسِّياسَةِ الدُّنيَوِيَّةِ، بِخِلافِ حالِ الرَّسولِ صلىاللهعليهوآله فَإِنَّهُ كانَ تَكليفُهُ مَعَهُم غَيرَ هذَا التَّكليفِ، أ لا تَرى أنَّهُ قيلَ لَهُ: «وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا»۲؟! فَهذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ يَعرِفُهُم بِأَعيانِهِم ؛ وإلاّ كانَ النَّهيُ لَهُ عَنِ الصَّلاةِ عَلَيهِم تَكليفَ ما لا يُطاقُ، وَالوالي بَعدَهُ لا يَعرِفُهُم بِأَعيانِهِم ؛ فَلَيسَ مُخاطَبا بِما خوطِبَ بِهِ صلىاللهعليهوآله في أمرِهِم، ولِسُكوتِ الخُلَفاءِ عَنهُم بَعدَهُ خَمَلَ ذِكرُهُم، فَكانَ قُصارى أمرِ المُنافِقِ أن يُسِرَّ ما في قَلبِهِ، ويُعامِلَ المُسلِمينَ بِظاهِرِهِ ويُعامِلونَهُ بِحَسَبِ ذلِكَ، ثُمَّ فُتِحَت عَلَيهِمُ البِلادُ وكَثُرَتِ الغَنائِمُ، فَاشتَغَلوا بِها عَنِ الحَرَكاتِ الَّتي كانوا يَعتَمِدونَها أيّامَ رَسولِ اللّهِ، وبَعَثَهُمُ الخُلَفاءُ مَعَ الأُمَراءِ إلى بِلادِ فارِسَ وَالرّومَ، فَأَلهَتهُمُ الدُّنيا عَنِ الأُمورِ الَّتي كانَت تَنقِمُ مِنهُم في حَياةِ رَسولِ اللّهِ صلىاللهعليهوآله، ومِنهُم مَنِ استَقامَ اعتِقادُهُ وخَلُصَت نِيَّتُهُ لَمّا رَأَوُا الفُتوحَ وإلقاءَ الدُّنيا أفلاذَ كَبَدِها مِنَ الأَموالِ العَظيمَةِ وُالكُنوزِ الجَليلَةِ إلَيهِم، فَقالوا: لَو لَم يَكُن هذَا الدّينُ حَقّا لَما وَصَلنا إلى ما وَصَلنا إلَيهِ. وبِالجُملَةِ: لَمّا تَرَكوا تُرِكوا، وحَيثُ سُكِتَ عَنهُم سَكَتوا عَنِ الإِسلامِ وأهلِهِ، إلاّ في دَسيسَةٍ خَفِيَّةٍ يَعمَلونَها نَحوَ الكَذِبِ الَّذي أشارَ إلَيهِ أميرُ المُؤِنينَ عليهالسلام، فَإِنَّهُ خالَطَ الحَديثَ كِذبٌ كَثيرٌ صَدَرَ عَن قَومٍ غَيرِ صَحيحِي العَقيدَةِ، قَصَدوا بِهِ الإِضلالَ وتَخبيطَ القُلوبِ وَالعَقائدِ، وقَصَدَ بِهِ بَعضُهُم التَّنويهَ بِذِكرِ قَومٍ كانَ لَهُم فِي التَّنويهِ بِذِكرِهِم غَرَضٌ دُنيَوِيٌ، وقَد قيلَ: إنَّهُ افتُعِلَ في أيّامِ مُعاوِيَةَ خاصَّةً حَديثٌ كَثيرٌ عَلى هذَا الوَجهِ، ولَم يَسكُتِ المُحَدِّثونَ الرّاسِخونَ في عِلمِ الحَديثِ عَن هذا، بَل ذَكَروا كَثيرا مِن هذِهِ الأَحاديثِ المَوضوعَةِ، وبَيَّنوا وَضعَها وأنَّ رُواتَها غَيرُ مَوثوقٍ بِهِم. إلاّ أنَّ المُحَدِّثينَ إنَّما يَطعَنونَ فيما دونَ طَبَقَةِ الصَّحابَةِ، ولا يَتَجاسَرونَ فِي الطَّعنِ عَلى أحَدٍ مِنَ الصَّحابَةِ ؛ لِأَنَّ عَلَيهِ لَفظَ الصُّحبَةِ. عَلى أنَّهُم قَد طَعَنوا في قَومٍ لَهُم صُحبَةٌ ؛ كَبُسرِ بنِ أرطاةٍ، وغَيرِهِ....
وقَد رُوِيَ أنَّ أبا جَعفَرٍ مُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ الباقِرَ عليهالسلام قالَ لِبَعضِ أصحابِهِ: يا فُلانُ ! ما لَقينا مِن ظُلمِ قُرَيشٍ إيّانا وتَظاهُرِهِم عَلَينا ! وما لَقِيَ شيعَتُنا ومُحِبّونا مِنَ النّاسِ ! إنَّ رَسولَ اللّهِ صلىاللهعليهوآله قُبِضَ وقَد أخبَرَ أنّا أولَى النّاسِ بِالنّاسِ، فَتَمالَأَت عَلَينا قُرَيشٌ حَتّى أخرَجَتِ الأَمرَ عَن مَعدِنِهِ، وَاحتَجَّت عَلَى الأَنصارِ بِحَقِّنا وحُجَّتِنا، ثُمَّ تَداوَلَتها قُرَيشٌ واحِدٌ بَعدَ واحِدٍ حَتّى رَجَعَت إلَينا، فَنَكَثَت بَيعَتَنا ونَصَبَتِ الحَربَ لَنا، ولَم يَزَل صاحِبُ الأَمرِ في صُعودٍ كَؤودٍ۳ حَتّى قُتِلَ، فَبويِعَ الحَسَنُ ابنُهُ وعوهِدَ، ثُمَّ غُدِرَ بِهِ واُسلِمَ، ووَثَبَ عَلَيهِ أهلُ العِراقِ حَتّى طُعِنَ بِخَنجَرٍ في جَنبِهِ، ونُهِبَت عَسكَرُهُ، وعولِجَت خَلاليلُ اُمَّهاتِ أولادِهِ، فَوادَعَ مُعاوِيَةُ وحَقَنَ دَمَهُ ودِماءَ أهلِ بَيتِهِ، وهُم قَليلٌ حَقَّ قَليلٍ.
ثُمَّ بايَعَ الحُسَينَ عليهالسلام مِن أهلِ العِراقِ عِشرونَ ألفا، ثُمَّ غَدَروا بِهِ وخَرَجوا عَلَيهِ وبَيعَتُهُ في أعناقِهِم وقَتَلوهُ. ثُمَّ لَم نَزَل ـ أهلَ البَيتِ ـ نُستَذَلُّ ونُستَضامُ ونُقصى ونُمتَهَنُ ونُحرَمُ ونُقتَلُ ونَخافُ ولا نَأمَنُ عَلى دِمائِنا ودِماءِ أولِيائِنا، ووَجَدَ الكاذِبونَ الجاحِدونَ لِكَذِبِهِم وجُحودِهِم مَوضِعا يَتَقَرَّبونَ بِهِ إلى أولِيائِهِم وقُضاةِ السَّوءِ وعُمّالِ السَّوءِ في كُلِّ بَلدَةٍ، فَحَدَّثوهُم بِالأَحاديثِ المَوضوعَةِ المَكذوبَةِ، ورَوَوا عَنّا ما لَم نَقُلهُ وما لَم نَفعَلهُ؛ لِيُبَغِّضونا إلَى النّاسِ، وكانَ عِظَمُ ذلِكَ وكِبَرُهُ زَمَنَ مُعاوِيَةَ بَعدَ مَوتِ الحَسَنِ عليهالسلام، فَقُتِلَت شيعَتُنا بِكُلِّ بَلدَةٍ، وقُطِعَتِ الأَيدي وَالأَرجُلُ عَلَى الظِّنَّةِ، وكانَ مَن يُذكَرُ بِحُبِّنا وَالاِنقِطاعِ إلَينا سُجِنَ، أو نُهِبَ مالُهُ، أو هُدِمَت دارُهُ.
ثُمَّ لَم يَزَلِ البَلاءُ يَشتَدُّ ويَزدادُ إلى زَمانِ عُبَيدِ اللّهِ بنِ زِيادٍ قاتِلِ الحُسَينِ عليهالسلام، ثُمَّ جاءَ الحَجّاجُ فَقَتَلَهُم كُلَّ قِتلَةٍ، وأَخَذَهُم بِكُلِّ ظِنَّةٍ وتُهَمَةٍ، حَتّى أنَّ الرَّجُلَ لَيُقالُ لَهُ: زِنديقٌ أو كافِرٌ أحَبُّ إلَيهِ مِن أن يُقالَ: شيعَةُ عَلِيٍّ، وحَتّى صارَ الرَّجُلُ الَّذي يُذكَرُ بِالخَيرِ ـ ولَعَلَّهُ يَكونُ وَرِعا صَدوقا ـ يُحَدِّثُ بِأَحاديثَ عَظيمَةٍ عَجيبَةٍ مِن تَفضيلِ بَعضِ مَن قَد سَلَفَ مِنَ الوُلاةِ، ولَم يَخلُقِ اللّهُ تَعالى شَيئا مِنها، ولا كانَت ولا وَقَعَت، وهُوَ يَحسَبُ أنَّها حَقٌّ لِكَثرَةِ مَن قَد رَواها مِمَّن لَم يُعرَف بِكَذِبٍ ولا بِقِلَّةِ وَرَعٍ.
ورَوى أبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أبي سَيفٍ المَدائِنِيُّ في كِتابِ الأَحداثِ قالَ: كَتَبَ مُعاوِيَةُ نُسخَةً واحِدَةً إلى عُمّالِهِ بَعدَ عامِ الجَماعَةِ: أن بَرِئتُ الذِّمَةَ مِمَّن رَوى شَيئا مِن فَضلِ أبي تُرابٍ وأهلِ بَيتِهِ، فَقامَتِ الخُطَباءُ في كُلِّ كورَةٍ وعَلى كُلِّ مِنبَرٍ يَلعَنونَ عَلِيّا ويَبرَؤونَ مِنهُ ويَقَعونَ فيهِ وفي أهلِ بَيتِهِ، وكانَ أشَدَّ النّاسِ بَلاءً حينَئِذٍ أهلُ الكوفَةِ ؛ لِكَثرَةِ مَن بِها مِن شيعَةِ عَلِيٍّ عليهالسلام، فَاستَعمَلَ عَلَيهِم زِيادَ بنَ سُمَيَّةَ وضُمَّ إلَيهِ البَصرَةَ، فَكانَ يَتَتَبَّعُ الشّيعةَ وهُوَ بِهِم عارِفٌ ؛ لِأَنَّهُ كانَ مِنهُم أيّامَ عَلِيّ عليهالسلام، فَقَتَلَهُم تَحتَ كُلِّ حَجَرٍ ومَدَرٍ، وأَخافَهُم، وقَطَعَ الأَيدِيَ وَالأَرجُلَ، وسَمَلَ العُيونَ، وصَلَبَهُم عَلى جُذوعِ النَّخلِ، وطَرَدَهُم وشَرَدَّهُم عَنِ العِراقِ، فَلَم يَبقَ بِها مَعروفٌ مِنهُم، وكَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى عُمّالِهِ في جَميعِ الآفاقِ ألاّ يُجيزوا لِأَحَدٍ مِن شيعَةِ عَلِيٍّ وأَهلِ بَيتِهِ شَهادَةً، وكَتَبَ إلَيهِم أنِ انظُروا مَن قِبَلَكُم مِن شيعَةِ عُثمانَ ومُحِبّيهِ وأَهلِ وِلايَتِهِ وَالَّذينَ يَروونَ فَضائِلَهُ ومَناقِبَهُ، فَادنوا مَجالِسَهُم وقَرِّبوهُم وأَكرِموهُم، وَاكتُبوا لي بِكُلِّ ما يَروي كُلُّ رَجُلٍ مِنهُم وَاسمَهُ وَاسمَ أبيهِ وعَشيرَتِهِ.
فَفَعَلوا ذلِكَ حَتّى أكثَروا في فَضائِلِ عُثمانَ ومَناقِبِهِ ؛ لما كانَ يَبعَثُهُ إلَيهِم مُعاوِيَةُ مِنَ الصِّلاتِ وَالكِساءِ وَالحباءِ وَالقَطائِعِ، ويُفيضُهُ فِي العَرَبِ مِنهُم وَالمَوالي، فَكَثُرَ ذلِكَ في كُلِّ مِصرٍ، وتَنافَسوا فِي المَنازِلِ وَالدُّنيا، فَلَيسَ يَجيءُ أحَدٌ مَردودٌ مِنَ النّاسِ عامِلاً مِن عُمّالِ مُعاوِيَةَ فَيَروي في عُثمانَ فَضيلَةً أو مَنقِبَةً إلاّ كَتَبَ اسمَهُ وقَرَّبَهُ وشَفَّعَهُ، فَلَبِثوا بِذلكَ حينا.
ثُمَّ كَتَبَ إلى عُمّالِهِ: أنَّ الحَديثَ في عُثمانَ قَد كَثُرَ وفَشا في كُلِّ مِصرٍ وفي كُلِّ وَجهٍ وناحِيَةٍ، فَإِذا جاءَكُم كِتابي هذا فَادعُوا النّاسَ إلَى الرِّوايَةِ في فَضائِلِ الصَّحابَةِ وَالخُلَفاءِ الأَوَّلَينَ، ولا تَترُكوا خَبَرا يَرويهِ أحَدٌ مِنَ المُسلِمينَ في أبي تُرابٍ إلاّ وتَأتوني بِمُناقِضٍ لَهُ فِي الصَّحابَةِ ؛ فَإِنَّ هذا أحَبُّ إلَيَّ، وأَقَرُّ لِعَيني، وأَدحَضُ لِحُجَّةِ أبي تُرابٍ وشيعَتِهِ، وأَشَدُّ عَلَيهِم مِن مَناقِبِ عُثمانَ وفَضلِهِ.
فَقُرِئَت كُتُبُهُ عَلَى النّاسِ، فَرُوِيَت أخبارٌ كَثيرَةٌ في مَناقِبِ الصَّحابَةِ مُفتَعَلَةٌ لا حَقيقةَ لَها، وَجَدَّ النّاسُ في رِوايَةِ ما يَجري هذَا المَجرى حَتّى أشادوا بِذِكرِ ذلِكَ عَلَى المَنابِرِ واُلقِيَ إلى مُعَلِّمِي الكَتاتيبِ، فَعَلَّموا صِبيانَهُم وغِلمانَهُم مِن ذلِكَ الكَثيرَ الواسِعَ حتّى رَوَوهُ وتَعَلَّموهُ كَما يَتَعَلَّمونَ القُرآنَ، وحَتّى عَلَّموهُ بَناتِهِم ونِساءَهُم وخَدَمَهُم وحَشَمَهُم، فَلَبِثوا بِذلِكَ ما شاءَ اللّهُ.
ثُمَّ كَتَبَ إلى عُمّالِهِ نُسخَةً واحِدَةً إلى جَميعِ البُلدانِ: اُنظُروا مَن قامَت عَلَيهِ البَيِّنَةُ أنَّهُ يُحِبُّ عَلِيّا وأَهلَ بَيتِهِ فَامحوهُ مِنَ الدّيوانِ، وأَسقِطوا عَطاءَهُ ورِزقَهُ، وشَفَّعَ ذلِكَ بِنُسخَةٍ اُخرى: مَنِ اتَّهَمتُموهُ بِمُوالاةِ هؤلاءِ القَومِ فَنَكِّلوا بِهِ وَأهدِموا دارَهُ. فَلَم يَكُنِ البَلاءُ أشَدَّ ولا أكثَرَ مِنهُ بِالعِراقِ ولا سِيَّما بِالكوفَةِ، حَتّى أنَّ الرَّجُلَ مِن شيعَةِ عَلِيٍ عليهالسلام لَيَأتيهِ مَن يَثِقُ بِهِ فَيَدخُلُ بَيتَهُ فَيُلقي إلَيهِ سِرَّهُ ويَخافُ مِن خادِمِهِ ومَملوكِهِ ! ولا يُحَدِّثُهُ حَتّى يَأخُذَ عَلَيهِ الأَيمانَ الغَليظَةَ لَيَكتُمُنَّ عَلَيهِ. فَظَهَرَ حَديثٌ كَثيرٌ مَوضوعٌ وبُهتانٌ مُنتَشِرٌ، ومَضى عَلى ذلِكَ الفُقَهاءُ وَالقُضاةُ وَالوُلاةُ، وكانَ أعظَمَ النّاسِ في ذلِكَ بَلِيَّةً القُرّاءُ المُراؤونَ وَالمُستَضعَفونَ الَّذينَ يُظهِرونَ الخُشوعَ وَالنُّسُكَ، فَيَفتَعِلونَ الأَحاديثَ ؛ لِيَحظَوا بِذلِكَ عِندَ وُلاتِهِم، ويَقرَبوا مَجالِسَهُم، ويُصيبوا بِهِ الأَموالَ وَالضِّياعَ وَالمَنازِلَ، حَتَّى انتَقَلَت تِلكَ الأَخبارُ وَالأَحاديثُ إلى أيدِي الدَّيّانينَ الَّذينَ لا يَستَحِلّونَ الكَذِبَ وَالبُهتانَ، فَقَبِلوها ورَوَوها وهُم يَظُنّونَ أنَّها حَقٌّ، ولَو عَلِموا أنَّها باطِلَةٌ لَما رَوَوها ولا تَدَيَّنوا بِها.
فَلَم يَزَلِ الأَمرُ كَذلِكَ حَتّى ماتَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍ عليهالسلام، فَازدادَ البَلاءُ وَالفِتنَةُ، فَلَم يَبقَ أحَدٌ مِن هذَا القَبيلِ إلاّ وهُوَ خائِفٌ عَلى دَمِهِ أو طَريدٌ فِي الأَرضِ.
ثُمَّ تَفاقَمَ الأَمرُ بَعدَ قَتلِ الحُسَينِ عليهالسلام، ووَلِيَ عَبدُ المَلِكِ بنُ مَروانَ، فَاشتَدَّ عَلَى الشّيعَةِ ووَلّى عَلَيهِمُ الحَجّاجَ بنَ يوسُفَ، فَتَقَرَّبَ إلَيهِ أهلُ النُّسُكِ وَالصَّلاحِ وَالدّينِ بِبُغضِ عَلِيٍّ ومُوالاةِ أعدائِهِ ومُوالاةِ مَن يَدَّعي مِنَ النّاسِ أنَّهُم أيضاً أعداؤهُ، فَأَكثَروا فِي الرِّوايَةِ في فَضلِهِم وسَوابِقِهِم ومَناقِبِهِم، وأَكثَروا مِنَ الغَضِّ مِن عَلِيٍّ عليهالسلام وعَيبِهِ وَالطَّعنِ فيهِ وَالشَّنَآنِ لَهُ، حَتّى أنَّ إنسانا وَقَفَ لِلحَجّاجِ ـ ويُقالُ إنَّهُ جَدُّ الأَصمَعِيِّ عَبدِ المَلِكِ بنِ قَريبٍ ـ فَصاحَ بِهِ أيُّهَا الأَميرُ ! إنَّ أهلي عَقَوني فَسَمَّوني عَلِيّا، وإنّي فَقيرٌ بائِسٌ وأَنَا إلى صِلَةِ الأَميرِ مُحتاجٌ، فَتَضاحَكَ لَهُ الحَجّاجُ وقالَ: لِلُطفِ ما تَوَسَّلتَ بِهِ قَد وَلَّيتُكَ مَوضِعَ كَذا.
وقَد رَوَى ابنُ عَرفَةَ المَعروفُ بِنفطَوَيهِ ـ وهُوَ مِن أكابِرِ المُحَدِّثينَ وأَعلامِهِم ـ في تاريخِهِ ما يُناسِبُ هذَا الخَبَرَ وقالَ: إنَّ أكثَرَ الأَحاديثِ المَوضوعَةِ في فَضائِلِ الصَّحابَةِ افتُعِلَت في أيّامِ بَني اُمَيَّةَ تَقَرُّبا إلَيهِم ؛ بِما يَظُنّونَ أنَّهُم يَرغُمونَ بِهِ اُنوفَ بَني هاشِمٍ.۴
1.. الكافي : ج ۸ ص ۳۸۷ ح ۵۸۶ عن محمّد بن الحسين عن أبيه عن جدّه عن أبيه وغيره ، نهج البلاغة : الخطبة ۱۴۷ ، الاختيار لابن الباقي : ص ۳۰۸ ح ۱۴۶ ، بحار الأنوار : ج ۳۴ ص ۲۳۳ ح ۹۹۷ .
2.. التوبة : ۸۴.
3.. الكَؤود : الصعب (لسان العرب : ج ۳ ص ۳۷۴ «كأد») .
4.. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ۱۱ ص ۴۱ وراجع : الاحتجاج : ج ۲ ص ۸۵ ح ۱۶۲ و كتاب سليم بن قيس : ج ۲ ص ۷۸۴ ح ۲۶ و بحار الأنوار : ج ۴۴ ص ۱۲۶ ذيل ح ۱۶ .