أحَدٌ، أشَدُّ النّاسِ تَواضُعاً أعظَمُهُم حِلماً و أنداهُم كَفّاً و أمنَعُهُم كَنَفاً، وَرِثَ عَنهُما أوصياؤُهُما عِلمَهُما، فَاردُد إلَيهِمُ الأمرَ و سَلِّم إلَيهِم، أماتَكَ اللهُ مَماتَهُم و أحياكَ حَياتَهُم إذا شِئتَ رَحِمَكَ اللهُ.
قالَ فَتحٌ: فَخَرَجتُ، فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ تَلَطَّفتُ في الوُصولِ إلَيهِ، فَسَلَّمتُ عَلَيهِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، فَقُلتُ: يا ابنَ رَسولِ اللهِ، أ تَأذَن لي في مَسألَةٍ اختَلَجَ في صَدري أمرُها لَيلَتي؟ قالَ: سَل، و إن شَرَحتُها فَلي و إن أمسَكتُها فَلي، فَصَحِّح نَظَرَكَ و تَثَبَّت في مَسألَتِكَ، و اصغِ إلى جَوابِها سَمعَكَ، و لا تَسألَ مَسألَةً تَعَيَّنَت، و اعتَنِ بِما تَعتَني بِهِ، فَإنَّ العالِمَ و المُتَعَلِّمَ شَريكانِ في الرُّشدِ، مَأمورانِ بِالنَّصيحَةِ، مَنهِيّانِ عن الغِشِّ، و أمّا الَّذي اختَلَجَ في صَدرِكَ لَيلَتَكَ، فَإن شاءَ العالِمُ أنبَأكَ، إنَّ اللهَ لَم يُظهِر عَلى غَيبِهِ أحَداً إلّا مَن ارتَضى مِن رَسول، فَكُلُّ ما كانَ عِندَ الرَّسولِ كانَ عِندَ العالِمِ، و كُلُّ مَا اطَّلَعَ عَلَيهِ الرَّسولُ فَقَد اطَّلَعَ أوصياؤُهُ عَلَيهِ؛ لِئَلّا تَخلوَ أرضُهُ مِن حُجَّةٍ يَكونُ مَعَهُ عِلمٌ يِدُلُّ عَلى صِدقِ مَقالَتِهِ و جَوازِ عَدالَتِهِ. يا فَتحُ، عَسَى الشَّيطانُ أرادَ اللُّبسَ عَلَيكَ فَأوهَمَكَ في بَعضِ ما أودَعتُكَ و شَكَّكَكَ في بَعضِ ما أنبَأتُكَ، حَتّى أرادَ إزالَتَكَ عن طَريقِ اللهِ و صِراطِهِ المُستَقيمِ، فَقُلتُ: مَتى أيقَنتُ إنَّهُم كَذا فَهُم أربابٌ، مَعاذَ اللهِ إنَّهُم مَخلوقونَ مَربوبونَ، مُطيعونَ لِلهِ داخِرونَ راغِبونَ، فَإذا جاءَكَ الشَّيطانُ مِن قِبَلِ ما جاءَكَ فاقمَعهُ بِما أنبَأتُكَ بِهِ.
فَقُلتُ لَهُ: جُعِلتُ فِداكَ، فَرَّجتَ عَنّي و كَشَفتَ ما لَبَّسَ المَلعونُ عَلَيَّ بِشَرحِكَ، فَقَد كانَ أوقَعَ في خَلَدي أنَّكُم أربابٌ.
قالَ: فَسَجَدَ أبو الحَسَنِ و هوَ يَقولُ في سِجودِهِ: راغِماً لَكَ يا خالِقي، داخِراً خاضِعاً.
قالَ: فَلَم يَزَل كَذَلِكَ حَتّى ذَهَبَ لَيلي، ثُمَّ قالَ: يا فَتحُ، كِدتَ أن تَهلِكَ و تُهلِكَ، و ما ضَرَّ عيسى إذا هَلَكَ مَن هَلَكَ، فَاذهَب إذا شِئتَ رَحِمَكَ اللهُ.
قالَ: فَخَرَجتُ و أنا فَرِحُ بِما كَشَفَ اللهُ عَنّي مِنَ اللَّبسِ بِأنَّهُم هُم، و حَمِدتُ اللهَ عَلى ما قَدَرتُ عَلَيهِ. فَلَمّا كانَ في المَنزِلِ الآخَرِ دَخَلتُ عَلَيهِ و هوَ مُتَّكِ و بَينَ يَدَيهِ حِنطَةٌ مَقلُوَّةٌ يَعبَثُ بِها، و قَد كانَ أوقَعَ الشَّيطانُ في خَلَدي أنَّهُ لا يَنبَغي أن يَأكُلوا و يَشرَبوا إذ كانَ ذَلِكَ آفَةٌ، و الإمامُ غَيرَ مَئُوفٍ! فَقالَ: اجلِس يا فَتحُ، فإنَّ لَنا بِالرُّسُلِ أُسوَةً،