9
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

استعان كل واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا ، وتقدّم وتأخروا ؛ لأنّ كلامه الذي عليه مَسْحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي ... فهو البحر الذي لا يُساجل والجمّ الذي لا يحافل » ۱ .
يقول ابن أبي الحديد ۲ : « اجتمع للإمام عليّ بن أبي طالب من صفات الكمال ، ومحمود الشمائل والخِلال وسناء الحسب وباذخ الشرف ، مع الفطرة النقية ، والنفس المرضيّة ، ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال ... كل هذه المزايا مجتمعة ، وتلك الصفات متآزرة متناصرة ، وما صاحَبها من نَفْح إلهي ، وإلهام قُدسي ، مكَّنت الإمام علي عليه السلام من وجوه البيان ، وملَّكته أعنّة الكلام ، وألهمته أسمى المعاني وأكرمها ، وهيّأت له أشرف المواقف وأعزّها ، فجرتْ على لسانه الخُطب الرائعة والرسائل الجامعة ، والوصايا النافعة ، والكلمة يرسلها عفو الخاطر فتغدو حِكمة ، والحديث يلقيه بلا تعمّل ولا إعنات فيصبح مثلاً ؛ في أداء محكم ، ومعنى واضح ولفظ عذب سائغ ؛ وإذا هذا الكلام يملأ السهل والجبل ، ينتقل في البدو والحضر ، يرويه على كثرته الرواة ، ويحفظه العلماء والدارسون ... وحسبك أنّه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العُشر ولا نصف العُشر مما دوّن له » .
وقال السيد المرتضى : « كان الحسن البصري بارع الفصاحة بليغ المواعظ ، كثير العلم ،
وجميع كلامه في الوعظ ، وذم الدنيا ... وجلّه مأخوذ لفظاً أو معنى ، أو معنى دون لفظ من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، فهو القدوة والغاية » ۳ .
ويقول البيهقي ، وهو من أوائل شرّاح النهج : « ولا شك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان باب مدينة العلوم فما نقول في سقط [الشرر] انفضّ من زند خاطره الواري ، وغيض بدا من فيض نهره الجاري ؛ لابل في شعلة من سراجه الوهّاج ، وغرفة من بحره الموّاج وقطرة من سحاب علمه الغزير ، ولا ينبؤك مثل خبير » ۴ .
وذهب الشيخ محمّد عبده ـ إلى نحو ذلك في مقدّمة شرحه للنهج الذي عوّل فيه على

1.نهج البلاغة ، الشريف الرضي ، المقدمة .

2.شرح ابن أبي الحديد ، تحقيق محمد أبو الفضل ۱/۵ .

3.أمالي المرتضى .

4.معارج نهج البلاغة ، علي بن زيد البيهقي ، ص۹۷ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
8

والعلمية ، ويعالج مشاكله دائماً ، وهو بهذا الاعتبار بقي وسيبقى خالداً أبدَ الدهر تهفو إليه القلوب الوالهة الضماء لتستضيء بنور هديه وترتوي من عذب مائه . ولا يكاد أديب أو خطيب أو فقيه أو كاتب أو مفكر بنحو عام يتخلّص من تأثيره . ولا تخلو مكتباتهم من اقتنائه .
ولم يكن « نهج البلاغة » كتاباً وضعه مؤلفه في فصول مرتّبة ومنظّمة ـ مترابطة الأجزاء والأبواب ، وفي زمان واحد وإنّما هو مختارات من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه ومتشعبات غصونه ، خلال سنيّ عمره المبارك التي أعقبت حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، التي لاقى فيها ألواناً من الأذى والمحن والفتن والحروب ، وشاهد كثيراً من الانحرافات التي ولّدتها نفوس الحاقدين والمنافقين والطامعين من الشانئين والطلقاء وأبنائهم .
ورغم طول المدّة واختلاف الأحوال ، تجد موضوعاته ترتبط ارتباطاً عضوياً محكماً لا خلل فيه ولا اختلاف يجمعها وحدة الهدف والغاية والطريقة ، رغم أن الإمام عليه السلام كان يلقي خطبَه وكلامه ارتجالاً وعفو الخاطر ؛ وهو بهذا يكشف عن الروح الربانية الفذة التي كان يتمتّع بها الإمام عليه السلام ، كما يكشف عن أن هذا النتاج لا يمكن أن يصدر إلاّ عن مصدر طاقته فوق طاقة البشر ، يستقي من منبع الغيب والوحي ومن قبس النبوة والعصمة ، وأنّ النهج لوحده يصلح دليلاً موضوعياً على عصمة صاحبه وعظمته لما فيه من قمم فنيّة رائعة وأفكار جليلة معصومة ، « فالتوحيد ، والعدل والمباحث الشريفة الإلهية ما عرفت إلاّ من كلام هذا الرجل ... وإن كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمّن شيئاً من ذلك أصلاً ، ولا كانوا يتصورنه ، ولو تصوروه لذكروه ، وهذه الفضيلة عندي من أعظم الفضائل » ۱ .
والنهج العظيم يوضح سيرة وسلوك الإمام عليه السلام أفضل توضيح في غالب مراحل حياته ، وما لابسها من أحداث بشكل مدهش جعل هذا النهج ذات طبيعة خاصة متفردة ، وذلك للطاقة اللغوية والبلاغية الهائلة التي يمتلك ناصيتها الإمام عليه السلام وللعلوم الجمّة التي يكتنزها صدره الشريف . وللبلاغة التي تنثال على لسانه انثيالاً دون تعمّل أو تأمّل .
« فقد كان أمير المؤمنين عليه السلام مَشْرع الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه اُخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كلُّ قائل خطيب ، وبكلامه

1.شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ۲/۱۲۰ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8655
صفحه از 712
پرینت  ارسال به