685
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

الشّرْحُ :

الكلام في تفسير الألفاظ الأُصوليّة ؛ وهي العامّ والخاصّ ، والناسخ والمنسوخ ، والصدق والكذب ، والمحكَم والمتشابه ، موكول إلى فنّ أُصول الفقه ، وقد ذكرناه فيما أمليناه من الكتب الأُصولية ، والإطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجَن .
قوله عليه السلام : « وحفظاً ووهَماً » الهاء مفتوحة ، وهي مصدر وَهِمتُ ، بالكسر ، أوْهَم ، أي غلطت وسهوت ، وقد روي : « وَهْما » بالتسكين ، وهو مصدر وهَمت بالفتح أوْهُم ، إذا ذهب وهْمُك إلى شيء وأنت تريد غيره ، والمعنى متقارب . وقول النبي صلى الله عليه و آله وسلم « فليتبوّأ مقعده من النار » كلامٌ صيغته الأمر ، ومعناه الخبر ، كقوله تعالى : « قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدّا » ۱ ، وتبوّأت المنزلَ : نزلته ، وبوّأتُه منزلاً : أنزلته فيه . والتأثّم : الكفّ عن موجب الإثم ، والتحرّج مثله ، وأصله الضِّيق ، كأنه يضيق على نفسه . ولَقِفَ عنه : تناول عنه . وجنّب عنه : أخذ عنه جانباً . و « إنْ » في قوله : « حتى إنْ كانوا لَيحبّون » مخففة من الثقيلة ، ولذلك جاءت اللام في الخبر . والطارئ ، بالهمز : الطالع عليهم ، طَرَأ ، أي طلع ، وقد روي « عللهم » ، بالرفع عطفاً على « وجوه » ، وروي بالجرّ عطفاً على « اختلافِهم » .
فإن قلت : مَنْ هم أئمة الضلالة ، الّذين يتقرّب إليهم المنافقون الذين رأوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وصحبوه للزور والبهتان ؟ وهل هذا إلاّ تصريح بما تذكره الإمامية ، وتعتقده؟
قلت : ليس الأمر كما ظننت وظنّوا ، وإنّما يعني معاوية وعمرو بن العاص ومَنْ شايعهما على الضّلال ، كالخبر الذي رواه مَنْ رَوَاه في حقّ معاوية : « اللهمّ قِهِ العذاب والحساب ، وعلّمه الكتاب » ؛ وكرواية عمرو بن العاص تقرُّبا إلى قلب معاوية : « إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، إنّما وليَّ اللّه وصالح المؤمنين » ، وكرواية قوم في أيّام معاوية أخباراً كثيرة من فضائل عثمان ، تقرُّبا إلى معاوية بها ، ولسنا نجحَدُ فضلَ عُثْمان وسابقته ، ولكنّا نعلم أنّ بعض الأخبار الواردة فيه موضوع ، كخبر عمرو بن مرّة فيه وهو مشهور ، وعمرو بن مرّة ممّن له صحبة ، وهو شاميّ .
فأمّا قوله عليه السلام : « ورجل سمع من رسول اللّه شيئا ولم يحفظه على وجهه فوهم فيه » ، قد وقع ذلك . وقال أصحابنا في الخبر الّذي رواه عبد اللّه بن عمر أنّ الميّت ليُعذّب ببكاء أهله

1.سورة مريم ۷۵ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
684

الأرْبَعَةِ .
وَرَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ ، فَوَهِمَ فِيهِ ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً ، فَهُوَ فِي يَدَيْهِ ، وَيَرْوِيهِ وَيَعْمَلُ بِهِ ، وَيَقُولُ : أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذلِكَ لَرَفَضَهُ.
وَرَجُلٌ ثَالِثٌ ، سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ ، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ ، فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ ، وَلَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أنّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ .
وَآخَرُ رَابِـعٌ ، لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللّهِ ، وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ ، مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللّهِ ، وَتَعْظِيماً لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَلَمْ يَهِمْ ، بَلْ حَفظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ ، فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ ، وَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ ، وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ وَالمحْكَمَ وَالْمُتَشَابِهَ ، فَوَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ وعَرَفَ المُتَشابِهَ ومُحكَمِهِ . وَقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللّهِصَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الْكَلاَمُ لَهُ وَجْهَانِ : فَكَلاَمٌ خَاصٌّ ، وَكَـلاَمٌ عَامٌّ ، فَيَسْمَعُهُ مَنْ لاَ يَعْرِفُ مَا عَنَى اللّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ ، وَلاَ مَا عَنَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ ، وَيُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ ، وَمَا قُصِدَ بِهِ ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ ، وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مَنْ كَانَ يَسْأ لُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ ، حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الْأَعْرَابِيُّ وَالطَّارِئُ ، فَيَسَألَهُ عليه السلام حَتَّى يَسْمَعُوا ، وَكَانَ لاَ يَمُرُّ بِي مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ إِلاَّ سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَحَفِظْتُهُ .
فَهذِهِ وَجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلاَفِهِمْ ، وَعِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8727
صفحه از 712
پرینت  ارسال به