675
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

فإن قلت : أيّ فرق بين الأول والثاني؟
قلت : أمّا دفعهما عن حقهما ، فمنْعهما عنه ؛ سواء صار إليه عليه السلام أو إلى غيره ، أو لم يصِرْ إلى أحد ، بل بقيَ بحاله في بيت المال .
وأما القسم الثاني فهو أن يأخُذَ حقَّهما لنفسه ، وبين القسمين فرق ظاهر ، والثاني أفحش من الأوّل .
فإن قلت : فأَيّ فرق بين قوله : « أو جهلته » ، أو « أخطأْت بابه »؟
قلت : جَهْل الحُكْم أن يكونَ اللّه تعالى قد حكم بحرمة شيء ، فأَحَلّه الإمام أو المفتي ، وكونه يخطئ بابه ؛ هو أن يصيب في الحكم ويخطئ في الاستدلال عليه .
ثم أقسم أ نّه لم يكن له في الخلافة رغبة ولا إرْبة ، بكسر الهمزة ، وهي الحاجة . وصدَق عليه السلام ! فهكذا نَقَل أصحابُ التواريخ وأرباب عِلْمِ السِّير كلُّهم ، وروى الطبريّ في التاريخ ، ورواه غيره أيضا ، أنّ الناسَ غَشُوه وتكاثروا عليه يطلبون مبايعته ، وهو يأْبى ذلك ويقول : دعوني والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان ، لا تثبت عليه العقول ، ولا تقوم له القلوب . قالوا : نَنْشُدك اللّه ! ألاَ تَرَى الفِتنة ؟ ألا ترى إلى ما حدث في الإسلام ؟ ألا تخاف اللّه ؟ فقال : قد أجبتكم لما أرى منكم ، واعلموا أني إنْ أجبتُكم وركبتُ بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدِكم ، بل أنا أسمعُكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمرَكم إليه . فقالوا : ما نحن بمفارقيك حتى نبايعَك . قال : إن كان لابدّ مِن ذلك ففي المسجد ؛ فإن بَيْعتي لا تكون خَفْيا ، ولا تكون إلاّ عن رضى المسلمين ، وفي ملأ وجماعة . فقام والنّاس حوله ، فدخل المسجد ، وانثال عليه المسلمون فبايعوه ، وفيهم طلْحة والزبير .
قلت : قوله : « إنّ بيعتي لا تكون خَفْياً ، ولا تكون إلاّ في المسجد بمحضَرٍ من جمهور النّاس » ، يشابه قوله بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم للعبّاس لمّا سامَه مدّ يدِه للبيعة : إنّي أحبُّ أن أُصحِر بها ، وأكره أنْ أبايع من وراء رِتاج .
ثم ذكر عليه السلام أ نّه لما بُويع عمِل بكتَاب اللّه وسنّة رسوله ، ولم يحتجْ إلى رأيهما ولا رأيِ غيرِهما ، ولم يقع حُكْم يجهله فيستشيرهما ، ولو وقع ذلك لاستشارهما وغيرهما ، ولم يأنَفْ من ذلك . ثم تكلّم في معنى التَّنْفِيل في العطاء ، فقال : إنّي عمِلت بسنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمفي ذلك . وصدَق عليه السلام ! فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمسوّى في العطاء بين الناس ، وهو مذهب أبي بكر .
والعُتْبى: الرّضا، أي لست أرضيكما بارتكاب ما لا يحلّ لي في الشرع ارتكابُه . والضمير في « صاحبه » ، وهو الهاء المجرورة يرجع إلى الجوْر ، أي وكان عونا بالعمل على صاحب الجوْر .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
674

إِلَيْهَا ، وَحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا ، فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللّهِ وَمَا وَضَعَ لَنَا ، وَأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ ، وَمَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللّه عليه وَسَلَّمَ ، فَاقْتَدَيْتُهُ ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذلِكَ إِلَى رَأيِكُمَا ، وَلاَ رَأْيِ غَيْرِكُمَا ، وَلاَ وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ ، فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَوْ كَانَ ذلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا ، وَلاَ عَنْ غَيْرِكُمَا . وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الْأُسْوَةِ ، فَإِنَّ ذلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأيِي ، وَلاَ وَلِيتُهُ هَوىً مِنِّي ، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأنـْتُما مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّه عَليه وسلَّم قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيَما قَدْ فَرَغَ اللّهُ مِنْ قَسْمِهِ ، وَأَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ ، فَلَيْسَ لَكُمَا ، وَاللّهِ ، عِنْدِي وَلاَ لِغَيْرِكُمَا فِي هذَا عُتْبَى .
أَخَذَ اللّهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ ، وَألهَمَنَا وَإِيَّاكُمْ الصَّبْرَ!

۰.ثم قال عليه السلام :رَحِمَ اللّهُ رَجُلاً رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ ، أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ ، وَكَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ .

الشّرْحُ :

نقَمت عليه ، بالفتح أنقِم هذه اللغة الفصيحة ، وجاء نقِمت بالكسر أنقَم . وأرجأتما : أخّرتما ، أي نقَمتما من أحوالي اليسير ، وتركتما الكثير الذي ليس لكما ولا لغيركما فيه مطعَن ، فلم تذكراه ، فهلاّ اغتفرتُما اليسير للكثير ! وليس هذا اعترافاً بأنّ ما نقَماه موضع الطّعن والعيْب ، ولكنّه على جهة الجدَل والاحتجاج ، كما تقول لمن يطعن في بيتٍ من شعر شاعر مشهور : لقد ظلمتَه إذْ تتعلّق عليه بهذا البيت ، وتنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره!
ثم ذكر وجوه العتاب والاسترادة ۱ ، وهي أقسام : إمّا أن يكون لهما حقٌّ يدفعهما عنه ، أو استأثر عليهما في قَسْم ، أو ضَعُف عن السياسة ، أو جَهِل حُكْما من أحكام الشريعة ، أو أخطأ بابه .

1.الاسترادة : طلب الرجوع واللِّين والانقياد .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8896
صفحه از 712
پرینت  ارسال به