قوله عليه السلام : « قد لبس للحكمة جُنّتها » ، الجُنّة : ما يستتر به من السّلاح كالدِّرْع ونحوها ، ولبس جنّة الحِكْمة قمع النفس عن المشتهيات ، وقطع علائق النفس عن المحسوسات ؛ فإنّ ذلك مانع للنّفس عن أن يصيبها سهام الهوى ؛ كما تمنع الدّرع الدّارع عن أن يصيبه سهام الرِّماية . ثم عاد إلى صفة هذا الشخص ، فقال : « وأخذ بجميع أدبها من الإقبال عليها » ، أي شدّة الحرص والهمة . ثم قال : « والمعرفة بها » ، أي والمعرفة بشرَفِها ونفاستها . ثم قال : « والتفرّغ لها » ؛ لأنّ الذهن متى وجّهته نحو معلومين تخبّط وفسد ؛ وإنما يدرك الحكمة بتخلية السرّ من كلّ ما مرّ سواها . « فهيَ عند نفسه ضالّته التي يطلبها » ، هذا مثل قوله عليه السلام : « الحكْمة ضالّة المؤمن » . قوله عليه السلام : « وحاجته التي يسأل عنها » ، هو مثل قوله : « ضالّته التي يطلبها » .
ثم قال : « هو مغترب إذا اغترب الإسلام » ، يقول : هذا الشخص يُخْفِي نفسَه ويحملها إذا اغترب الإسلام ، واغتراب الإسلام أن يظهر الفسق والجوْر على الصَّلاَح والعدل ، قال عليه السلام : « بدأ الإسلامُ غريبا وسيعود كما بدأ » .
قال : « وضرب بعسيب ذَنبِه ، وألصق الأرض بجِرانه » ، هذا من تمام قوله : « إذا اغترب الإسلام » ، أي إذا صار الإسلام غريبا مقهورا ؛ وصار الإسلام كالبعير البارِكِ يضرب الأرض بعَسِيبه ؛ وهو أصلُ الذَّنَب ، ويلصق جِرانه ـ وهو صدره ـ في الأرض ؛ فلا يكون له تصرّف ولا نهوض .
ثم عاد إلى صفة الشّخص المذكور ، وقال : « بقيّة من بقايا حججه ، خَلِيفة من خلائف أنبيائه » ، الضمير هاهنا يرجع إلى اللّه سبحانه وإنْ لم يجرِ ذكره ؛ للعلم به ، كما قال : «حَتّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ » ۱ ، ويمكن أن يقال : إنّ الضمير راجع إلى مذكور وهو الإسلام ، أي من بقايا حجج الإسلام وخليفة من خلائف أنبياء الإسلام .
الأصْلُ :
۰.ثم قال عليه السلام :أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ ، وَأَدَّيْتُ