617
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

ثم قال عليه السلام لمن يتكلّف أن يصفَ ربّه : إن كنت صادقا أنَّكَ قد وصلتَ إلى معرفة صِفَته ، فصفْ لَنَا الملائكة ؛ فإنّ معرفة ذات الملك أهونُ من معرفة ذات الأول سبحانه . وحُجُرات القدس : جمع حُجْرة . ومرجحِنِّين : مائلين إلى جهة « تحت » ، خضوعاً لجلال البارئ سبحانه ؛ ارجحنّ الحجر ، إذا مال هاوياً . متولّهة عقولهم ، أي حائرة . ثم قال : إنّما يدرَك بالصفات ؛ ويعرف كنه ما كان ذا هيئة وأداة وجارحة ، وما ينقضي ، ويفنى ، ويتطرّق إليه العدم ؛ وواجب الوجود سبحانه بخلاف ذلك .
وتحت قوله : « أضاء بنوره كلّ ظلام ... » إلى آخر الفصل ، معنىً دقيق وسرٌّ خفيّ ؛ وهو أنّ كلّ رذيلة في الخلق البشريّ مع معرفته بالأدِلّة البرهانية غير مؤثّرة ولا قادحة في جلالة المقام الذي قد بلغ إليه ؛ وذلك نحو أن يكون العارف بخيلاً أو جباناً ، أو حرصياً أو نحو ذلك ؛ وكلّ فضيلةٍ في الخلق البشريّ مع الجهل به سبحانه ؛ فليست بفضيلةٍ في الحقيقة ولا معتدَّ بها ؛ لأنّ نقيصة الجهل به تكسِف تلك الأنوار ، وتمحَقُ فضلها ؛ وذلك نحو أن يكون الجاهل به سبحانه جواداً ، أو شجاعاً ، أو عفيفاً ، أو نحو ذلك .

الأصْلُ :

۰.أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَى اللّهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ ؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً ، أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلاً ، لَكَانَ ذلِكَ سُلَيمانَ بنَ دَاوُودَ عليه السلام ، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالاْءِنْس ، مَعَ النُّبُوَّةِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ . فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ ، وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ ، وَأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهِ خَالِيَةً ، وَالْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً ، وَوَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ .
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً ! أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ ؟! أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ ؟! أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ ، وَأَطْفَؤوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ ؟! أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ ، وَهَزَمُوا بِالألـُوفِ ، وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ ، وَمَدَّنُوا الْمَدَائِنَ؟!


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
616

الشّرْحُ :

ليس يعني بالكائن هاهنا ما يعنيه الحكماء والمتكلّمون ، بل مراده الموجود ، أي هو الموجود قبل أن يكون الكرسيّ والعرش وغيرهما .
قوله عليه السلام : « لا يدرَكُ بوهْم » ، الوهم هاهنا : الفكْرة والتوهّم . ولا يقدّر بفهم ، أي لا تستطيع الأفهام أن تقدّره وتحدّه . ولا يشغَلُه سائل كما يشغل السّؤّال مِنّا من يسألونه . ولا ينقصه العطاء ، كما ينقص العطاء خزائن الملوك . ولا يبصَر بجارحة ، ولا يحدّ بأيْن . وإن شئت قلت : إنّه تكلّم بالاصطلاح الحكْميّ . والأيْن عندهم : حصول الجسم في المكان ، وهو أحد المقولات العشر .
قوله عليه السلام : ولا يوصَف بالأزْواج ، أي صفات الأزواج ؛ وهي الأصناف ، قال سبحانه : «وَأَنْبَتْنَا فِيهَآ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهيجٍ » ۱ . قوله : « ولا يَخْلُق بعلاج » ، أي لا يحتاج في إيجاد المخلوقات إلى معالجة ومزاولة . قوله : « وكلّم مُوسى تكليماً » ۲ ، من الألفاظ القرآنية ، والمراد هاهنا من ذكْر المصدر تأكيد الأمر وإزالة لبْسٍ عساه يصلح للسامع ؛ فيعتقد أ نّه أراد المجاز ؛ وأ نّه لم يكن كلامٌ على الحقيقة . قوله : « وأراه من آياته عظيماً » ، ليس يريد به الآيات الخارجة عن التَّكليم ؛ كانشقاق البحر ، وقلْب العصا ؛ لأ نّه يكون بإدخال ذلك بين قوله : « تكليماً » ، وقوله : « بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات » ، مستهجناً ، وإنما يريد أنه أراد بتكليمه إياه عظيماً من آياته ؛ وذلك أنه كان يسمع الصوت من جهاتِه الستّ ؛ ليس على حدّ سماع كلام البشر من جهة مخصوصة ؛ وله دويٌّ وصلصلة كوقع السّلاسل العظيمة على الحصا الأصمّ .
فإن قلت : أتقول إنّ الكلام حلّ أجساما مختلفة من الجهات الستّ؟
قلت : لا وإنّما حلّ الشّجرة فقط ؛ وكان يُسمَع من كلّ جهة ، والدليل على حلوله في الشّجرة قوله تعالى : « فَلَمَّا أتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أنْ يَا مُوسَى » ۳ ؛ فلا يخلو إمّا أن يكونَ النداء حلّ الشّجرة ؛ أو المنادى حلَّها ، والثاني باطل ، فثبت الأوّل .

1.سورة ق ۷ .

2.وهو قوله تعالى في سورة النساء ۱۶۴ « وَكَلَّمَ اللّه ُ مُوسَى تَكْلِيما » .

3.سورة القصص ۳۰ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8785
صفحه از 712
پرینت  ارسال به