ثم قال عليه السلام لمن يتكلّف أن يصفَ ربّه : إن كنت صادقا أنَّكَ قد وصلتَ إلى معرفة صِفَته ، فصفْ لَنَا الملائكة ؛ فإنّ معرفة ذات الملك أهونُ من معرفة ذات الأول سبحانه . وحُجُرات القدس : جمع حُجْرة . ومرجحِنِّين : مائلين إلى جهة « تحت » ، خضوعاً لجلال البارئ سبحانه ؛ ارجحنّ الحجر ، إذا مال هاوياً . متولّهة عقولهم ، أي حائرة . ثم قال : إنّما يدرَك بالصفات ؛ ويعرف كنه ما كان ذا هيئة وأداة وجارحة ، وما ينقضي ، ويفنى ، ويتطرّق إليه العدم ؛ وواجب الوجود سبحانه بخلاف ذلك .
وتحت قوله : « أضاء بنوره كلّ ظلام ... » إلى آخر الفصل ، معنىً دقيق وسرٌّ خفيّ ؛ وهو أنّ كلّ رذيلة في الخلق البشريّ مع معرفته بالأدِلّة البرهانية غير مؤثّرة ولا قادحة في جلالة المقام الذي قد بلغ إليه ؛ وذلك نحو أن يكون العارف بخيلاً أو جباناً ، أو حرصياً أو نحو ذلك ؛ وكلّ فضيلةٍ في الخلق البشريّ مع الجهل به سبحانه ؛ فليست بفضيلةٍ في الحقيقة ولا معتدَّ بها ؛ لأنّ نقيصة الجهل به تكسِف تلك الأنوار ، وتمحَقُ فضلها ؛ وذلك نحو أن يكون الجاهل به سبحانه جواداً ، أو شجاعاً ، أو عفيفاً ، أو نحو ذلك .
الأصْلُ :
۰.أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَى اللّهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ ؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً ، أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلاً ، لَكَانَ ذلِكَ سُلَيمانَ بنَ دَاوُودَ عليه السلام ، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالاْءِنْس ، مَعَ النُّبُوَّةِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ . فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ ، وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ ، وَأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهِ خَالِيَةً ، وَالْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً ، وَوَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ .
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً ! أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ ؟! أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ ؟! أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ ، وَأَطْفَؤوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ ؟! أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ ، وَهَزَمُوا بِالألـُوفِ ، وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ ، وَمَدَّنُوا الْمَدَائِنَ؟!