591
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

فيهما ، وليس منهم من يرويه : « حُجِبت » في النار .
ثم ذكر عليه السلام أ نّه لا طاعة إلاّ في أمرِ تكرهه النفس ، ولا معصيةَ إلاّ بمواقعة أمرٍ تحبّه النفس ، وهذا حقّ ؛ لأنّ الإنسانَ ما لم يكن متردّد الدواعي لا يصحّ التكليف ؛ وإنما تتردّد الدواعي إذا أمر بِما فيه مشقّة ، أو نُهِيَ عمّا فيه لذّة ومنفعة .
فإن قلت : أليس قد أُمِر الإنسان بالنّكاح وهو لذة؟
قلت : ما فيه من ضرر الإنفاق ومعالجة أخلاق النساء يُرْبى على اللّذة الحاصلة فيه مراراً .
ثمّ قال عليه السلام : « رحم اللّه امرأ نزع عن شهوته » ، أي أقلع . « وقمع هَوَى نفسِه » ، أي قهره . ثم قال : فإنّ هذه النفس أبعدُ شيء منزَعا ، أي مذهباً ، قال أبو ذؤيب :

والنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذا رغَّبْتَهاوإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ
ثم قال عليه السلام : « نَفْس المؤمن ظَنُون عنده » ، الظَّنُون : البئر التي لا يدرَى أفيها ماء أم لا ، فالمؤمن لا يصبِح ولا يمسِي إلاّ وهو على حَذَرٍ من نفسه ، معتقدا فيها التقصير والتضجيع ۱ في الطاعة ، غير قاطع على صلاحها وسلامة عاقبتها . وزاريا عليها : عائباً ؛ زريْتُ عليه : عبت . ثم أمرهم بالتأسّي بمن كان قبلهم ، وهم الذين قَوّضُوا من الدّنيا خيامَهم ، أي نقضوها ، وطوَوْا أيّام العمر كما يطوِي المسافر منازلَ طريقه .

الأصْلُ :

۰.وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ. وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ : زِيَادَةٍ فِي هُدىً ، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمىً .
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ ، وَلاَ لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً ؛ فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأوَائِكُمْ ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ ، فَاسْأَلُوا اللّهَ بِهِ ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ ، وَلاَ

1.التضجيع في الأمر : التقصير فيه .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
590

۱۷۷

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلامانْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللّهِ ، وَاتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللّهِ ، وَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللّهِ ، فَإِنَّ اللّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ ، وَأخَذَ عَلَيْكُمْ الْحُجَّةَ ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَمَكَارِهَهُ مِنْهَا ، لِتَتَّبِعُوا هذِهِ ، وَتَجْتَنِبُوا هذِهِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وسلّم كَانَ يَقُولُ : «إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ ، وَإِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ» .
وَاعْلَمُوا أنـّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللّهِ شَيْءٌ إِلاَّ يَأتِي فِي كُرْهٍ ، وَمَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللّهِ شَيْءٌ إِلاَّ يَأتِي فِي شَهْوَةٍ . فَرَحِمَ اللّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ ، وَقَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ ، فَإِنَّ هذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مَنْزِعاً ، وَإِنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوىً .
وَاعْلَمُوا ـ عِبَادَ اللّهِ ـ أَنَّ الْمُؤمِنَ لاَ يُمْسِي ولاَ يُصْبِحُ إِلاَّ وَنَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ ، فَـلاَ يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَمُسْتَزِيْداً لَهَا . فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ ، وَالْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ . قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِل ، وَطَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازل .

الشّرْحُ :

أعذر إليكم : أوضَح عذره في عقابكم إذا خالفتم أوامره . والجليّة : اليقين ؛ وإنّما أعذر إليهم بذلك ؛ لأ نّه مكّنهم من العلم اليقينِيّ بتوحيده وعدله ، وأوجب عليهم ذلك في عقولهم ؛ فإذا تركوه ساغ في الحِكْمة تعذيبُهم وعقوبتهم ؛ فكأنَّهُ قد أبان لهم عذره أنْ لو قالوا : لِمَ تعاقبنا ؟ « ومحابّه من الأعمال » ، هي الطاعات التي يحبّها . وحبّها لها إرادة وقوعها من المكلّفين . ومكارهه من الأعمال : القبائح التي يكرهها منهم ؛ وهذا الكلام حجّة لأصحابنا على المجبِّرة . والخبر الذي رواه عليه السلام مرويّ في كتب المحدّثين ؛ وهو قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « حُجبت الجنّة بالمكاره ، وحفّت النار بالشهوات » ، ومن المحدّثين من يرويه : « حفّت »

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8405
صفحه از 712
پرینت  ارسال به