57
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

بِلال كلّ غلّة ، وشِفاء كلّ عِلَّة ، وجِلاء كلّ شبهة . ومن اللّه أستمدّ التوفيق والعصمة ، وأتنجّزُ التسديد والمعونة ، وأستعيذه من خطأ الجِنَان قبل خطأ اللسان ، ومن زَلَّة الكلِم قبل زلّة القدم ، وهو حسبي ونعم الوكيل ) .

الشرح :

في أثناء هذا الاختيار : تضاعيفه ، والغيْرة : بالفتح ، والكسر خطأ . وعقائل الكلام : كرائمه ، وعَقِيلة الحيّ : كريمتُه ، وكذلك عَقِيلة الذوْد . والأقطار : الجوانب ، واحدها قُطْر . والنادّ : المنفرد ؛ ندّ البعير يَنِدّ . الرِّبقة : عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة . وقوله : « وعلى اللّه نهج السبيل » ، أي إبانته وإيضاحه ، نهجت له نهجا . وأما اسم الكتاب فـ « نهج البلاغة » ، والنهج هنا ليس بمصدر ، بل هو اسم للطريق الواضح نفسه . والطلاب ، بكسر الطاء : الطلب . والبُغية : ما يُبتغى . وبِلال كلّ غلة ، بكسر الباء : ما يُبَلّ به الصدى .
وإنما استعاذ من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ؛ لأنّ خطأ الجَنان أعظم وأفحشُ من خطأ اللسان ، وإنما استعاذ من زَلّة الكَلِم قبل زلّة القَدَم ؛ لأنّه أرَاد زلّة القدم الحقيقية ؛ ولا ريب أنّ زلّة القدم أهونُ وأسهل ؛ لأنّ العاثر يستقيل من عثرته . وذا الزلّة تَجِدُهُ ينهض من صَرْعته ؛ وأما الزلّة باللسان فقد لا تستقال عَثْرَتها ، ولا يَنهض صريعها .

قال الرضيّ رحمه الله :

بابُ المختار من خطب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وأوامره ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة والمواقف المذكورة ، والخطوب الواردة .

الشرح :

المقامات : جمع مقامة ، وقد تكون المقامة المجلس والنادي الذي يجتمع إليه الناس ، وقد يكون اسما للجماعة ، والأول أليق هاهنا لقوله : المحضورة ، أي التي قد حضرها الناس .
ومنذ الآن نبتدئ بشرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، ونجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه « الأصل » فإذا أنهيناه قلنا : « الشرح » ، فذكرنا ما عندنا فيه ، وباللّه التوفيق .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
56

وتِلْكَ شَكاةٌ ظاهِرٌ عنك عارُها
وهذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة .
ومنها أنّ الغالب على شرفاء الناس ومَنْ هو من أهلِ بيت السيادة والرياسة ، أن يكونَ ذا كِبْرٍ وتيهٍ وتعظّم وتغطْرُس ؛ وكان أميرُ المؤمنين عليه السلام في مُصاصِ الشرف ومعدنه ومعانيه ، لا شكّ عدوّ ولا صديق أنه أشرفُ خلق اللّه نسبا بعد ابن عمّه صلوات اللّه عليه ، وقد حَصَل له من الشرف غير شرف النسب جهاتٌ كثيرة متعددة ، قد ذكرنا بعضها ، ومع ذلك فكان أشدَّ الناس تواضعا لصغير وكبير ، وألينَهم عَريكة ، وأسمحَهم خُلُقا ، وأبعدَهم عن الكِبْر ، وأعرفهم بحقّ .
ومنها أنّ الغالبَ على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقَة الدماء ، أنْ يكونوا قليلي الصفح ، بعيدي العفو ؛ وقد علمتَ حال أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح ، ومغالبة هوى النفس ، وقد رأيتَ فعله يوم الجمل .
ومنها أنّا ما رأينا شجاعا جوادا قطّ ؛ وقد علمت حالَ أمير المؤمنين عليه السلام في الشّجاعة والسخاء ، كيف هي ! وهذا من أعاجيبه أيضا عليه السلام .

قال الرضيّ رحمه الله :

( وربّما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظُ المردّد ، والمعنى المكرّر ؛ والعذر في ذلك أنّ روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا ؛ فربّما اتفق الكلام المختار في رواية فَنُقِلَ على وجهه ، ثم وُجِد بعد ذلك في رواية أُخرى موضوعا غير وضعه الأول ؛ إمّا بزيادة مختارة ، أو بلفظٍ أحسنَ عبارة ؛ فتقتضى الحالُ أن يعاد ؛ استظهارا للاختيار ، وغَيْرةً على عقائل الكلام . وربما بَعُد العهد أيضا بما اختير أولاً ؛ فأعيد بعضُه سهوا ونسيانا ، لا قصدا أو اعتمادا . ولا أدّعي مع ذلك أنني أُحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام ؛ حتى لا يشِذّ عنّي منه شاذّ ، ولا ينِدّ نادّ ، بل لا أبعِد أن يكون القاصِرُ عنّي فوق الواقع إليّ ، والحاصلُ في رِبْقتي دون الخارج من يديّ؛ وما عليّ إلاّ بذلُ الجهد ، وبلاغة الوسع ، وعلى اللّه سبحانه نَهْج السبيل ، وإرشاد الدليل .
ورأيت من بعدُ تسميةَ هذا الكتاب بـ « نهج البلاغة » ؛ إذ كان يَفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرّب عليه طِلاَبها ، وفيه حاجة العالم والمتعلّم ، وبُغية البليغ والزاهد ، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل ، وتنزيه اللّه سبحانه وتعالى عن شَبَه الخلق ، ماهو

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8754
صفحه از 712
پرینت  ارسال به