بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأُمور المفصّلة وحلّ المشكلات الغامضة . وقد روي « حَمَل » على صيغة الماضي ، و « مجهودَه » بالنصب ، و « خَفّفَ » على صيغة الماضي أيضاً ، ويكون الفاعل هو اللّه تعالى المقدّم ذكره ، والرواية الأُولى أكثر وأليق . ثم قال : « ربّ رحيم » أي ربّكم رب رحيم . ودين قويم ، أي مستقيم . وإمام عليم ، يعني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ثم دعا لنفسه ولهم بالغفران .
ثم قسّم الأيام الماضية والحاضرة والمستقبلة قسمة حسنة ، فقال : « أنا بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عِبْرة لكم ، وغداً مفارقكم » إنما كان عبرةً لهم ؛ لأنهم يروْنه بين أيديهم ملقىً صريعا بعد أن صَرَع الأبطال ، وقتل الأقران . ويقال : دَحَضت قدمُ فلان ، أي زلّت وزَلَقت . ثم شبّه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان ومهابّ الرياح وظلال الغمام ؛ لأنّ ذلك كلّه سريع الانقضاء لاثبات له .
قوله : « اضمحلّ في الجوّ متلفّقُها ، وعَفَا في الأرض مَخَطُّها » ، اضمحلّ ذهب ، والميم زائدة ، ومنه الضّحْل وهو الماء القليل ، واضمحلّ السحاب : تقشّع وذهب ، وفي لغة الكلابيين امضحلّ الشيء بتقديم الميم . ومتلفّقها : مجتمعها ، أي ما اجتمع من الغيوم في الجو ؛ والتلفيق : الجمع . وعَفَا : دَرَس . ومخطّها : أثرها ؛ كالخطة .
قوله : « وإنما كنتُ جارا جاوركم بَدَنِي أياما » ، في هذا الكلام إشعار بما يذهب إليه أكثر العقلاء من أمر النّفس ، وأنّ هويّة الإنسان شيء غير هذا البدَن . وقوله : « ستعقَبون مِنّي » أي إنما تجدون عَقيب فقدي جُثّة ؛ يعني بدنا خلاء ، أي لا رُوح فيه ؛ بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها وهي العقل والنطق والقوّة وغير ذلك . ثم وَصف تلك الجُثّة فقال : « ساكنة بعد حَرَاك » بالفتح ، أي بعد حَرَكة « وصامتة بعد نطق » . وهذا الكلام أيضا يُشعِر بما قلناه من أمرِ النّفْس ، بل يصرّح بذلك ، ألا تراه قال : « ستعقبون مني جثّة » ، أي تستبدلون بي جثّة صفتها كذا ؛ وتلك الجثّة جثته عليه السلام .
قوله : « ليعظكم هدوّى » ، أي سكوني ، وَخفوت إطراقي ، مثله خَفَت خُفوتاً سكن ، وَخفت خُفاتاً مات فجأة . وإطراقه : إرخاؤه عينيه ينظر إلى الأرض ، لضعفه عن رفع جفْنه . وسكون أطرافه : يداه ورجلاه ورأسه عليه السلام . قال : « فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ ، والقول المسموع » ؛ وصدق عليه السلام ! فإنّ خَطْبا أخرس ذلك اللسان ، وَهدّ تلك القُوَى لخطبٌ جليل ، ويجب أن يتّعظ العقلاء به . وما عسى يبلغ قول الواعظين بالإضافة إلى مَنْ شاهد