451
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً .
وَإِنَّمَا ذلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ الَّتي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ ، وَبَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ ، وَسَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ ، وَرِيٌّ لِلظَّمَآنِ ، وَفِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ وَالسَّلاَمَةُ .
كِتَابُ اللّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ ، وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْض ، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ، وَلاَ يَخْتَلِفُ فِي اللّهِ ، وَلاَ يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللّهِ .
قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِيَما بَيْنَكُمْ ، وَنَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ . وَتَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ الاْمَالِ ، وَتَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الْأَمْوَالِ .لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكُمُ الْخَبِيثُ ، وَتَاهَ بِكُمُ الْغُرُورُ ، وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ .

الشّرْحُ :

هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره ، بل هو فصول متفرقة التقطها الرضيّ من خطبة طويلة على عادته في التقاط ما يستفصحه من كلامه عليه السلام ، وإن كان كل كلامه فصيحا ؛ ولكن كلّ واحد له هوىً ومحبّة لشيء مخصوص ؛ وضروب الناس عشاق ضروباً .
أمّا قوله : كل شيء مملول إلا الحياة ؛ فهو معنى قد طَرقه الناس قديماً وحديثاً ، قال أبو الطيب :

وَلَذِيذُ الْحَياةِ أنفسُ في النْفّــسِ وأشهى من أن يملّ وأحْلَى
وإذا الشّيخ قال أففما ملّ حياةً ولكنِ الضَّعْفَ مَلاّ
فإن قلت : كيف يقول : إنه لا يجد في الموت راحةً ؟ وأين هذا من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « الدنيا سجن المؤمن ، وجنّة الكافر » ! ومن قوله عليه السلام : « واللّه ما أرجو الرّاحة إلاّ بعد الموت »؟! وماذا يعمل بالصالحين الذين آثرُوا فراقَ هذه العاجلة ، واختاروا الآخرة ، وهو عليه السلام سيّدهم وأميرهم ؟
قلت : لا منافاة ، فإنّ الصالحين ، إنّما طلبوا أيضاً الحياة المستمرّة بعد الموت ؛ ورسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إنما قال : إنّ الدنيا سجن المؤمن ؛ لأنّ الموتَ غير مطلوب للمؤمن لذاته ، إنما يطلبه للحياة المتعقّبة له ، وكذلك قوله عليه السلام : « واللّه ما أرجو الرّاحة إلاّ بعد الموت » ،


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
450

الأصْلُ :

۰.منها :وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مَنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى ، لاَ يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً ، وَالْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا . فَالبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ ، وَالْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ ، وَالْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ ، وَالْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ .

الشّرْحُ :

شَبّه الدنيا وما بعدها بما يتصوّره الأعمى ، من الظُّلمة التي يتخيّلها ؛ وكأنها محسوسة له ؛ وليست بمحسوسة على الحقيقة ؛ وإنما هي عدم الضَّوْء ، كمن يطلع في جبّ ضيق ، فيتخيّل ظلاما ، فإنه لم ير شيئا ، ولكن لَمّا عدم الضوء فلم ينفذ البصر تخيّل أنه يرى الظلمة ؛ فأمّا من يرى المبصرات في الضياء ، فإنّ بصره ينفذ فيشاهد المحسوسات يقينا ؛ وهذه حال الدنيا والآخرة ؛ أهلُ الدنيا منتَهى بصرهم دنياهم ، ويظنّون أنّهم يبصرون شيئا وليسوا بمبصرين على الحقيقة ، ولا حواسّهم نافذَة في شيء ، وأهل الآخرة قد نفذت أبصارهم ، فرأوا الآخرة ، ولم يقف إحساسهم على الدّنيا خاصّة ، فأولئك هم أصحاب الأبصار على الحقيقة ؛ وهذا معنى شريف من معاني أصحاب الطريقة والحقيقة ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه : « أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا » ۱ ، فأمّا قوله : « فالبصير منها شاخص ، والأعمى إليها شاخص » ، فمن مستحسَن التجنيس ؛ وهذا هو الذي يسمّيه أرباب الصناعة الجناس التام ؛ فالشاخص الأوّل الراحل ، والشاخص الثاني ، من شَخَص بصرُه ، بالفتح ، إذا فتح عينَه نحو الشيء مقابلاً له ؛ وجعل لا يطرف .

الأصْلُ :

۰.منها :وَاعْلَمُوا أ نَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ وَيَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَيَمَلُّهُ إِلاَّ الْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لاَ

1.سورة الأعراف ۱۹۵ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8721
صفحه از 712
پرینت  ارسال به