377
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

المنون » ؛ وهذه خصائص أربع .
ثمّ إعلم أن مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء لها صورتان ، إحداهما : أن « أفضل » بمعنى كونهم أكثر ، والأُخرى : كونهم أفضل بمعنى أشرف ؛ كما تقول : « إن الفَلَكَ أفضل من الأرض ، أي أن الجوهر الذي منه جسمية الفلك أشرف من الجوهر الذي منه جسمية » . وهذه المزايا الأربع دالة على تفضيل الملائكة بهذا لاعتبار الثاني ۱ .
قوله عليه السلام : « يتشعّبهم ريب المنون » ، أي يتقسّمهم ، والشَّعْب : التفريق ؛ ومنه قيل للمنيّة : شَعوب ؛ لأنها تفرّق الجماعات . وريْب المنون : حوادث الدهر ، وأصل الرّيْب ما رابَ الإنسان ، أي جاءه بما يكره ، والمنون الدهر نفسه ، والمنون أيضا المنيّة ؛ لأنّها تمنّ المدّة ، أي تقطعها ، والمنّ : القطع ، ومنه قوله تعالى : « لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ ممْنُونٍ » ۲ . ثم ذكر أنّهم على كثرة عبادتهم وإخلاصهم لو عاينوا كُنْه ما خفي عليهم من الباري تعالى لحقّروا أعمالهم . وزروْا على أنفسهم ، أي عابوها ، تقول : زريت على فلان ، أي عبته وأزريت بفلان أي قصرت به .
فإن قلت : ما هذا الكُنه الذي خَفَى عن الملائكة ، حتى قال : لو عاينوه لحَـقّرُوا عبادتهم ، ولعلموا أنهم قد قصروا فيها ؟
قلت : إنّ علوم الملائكة بالباري تعالى نظريَّة كعلوم البشر ، والعلوم النظرية دون العلوم الضرورية في الجلاء والوضوح ، فأميرُ المؤمنين عليه السلام يقول : لو كانتْ علومهم بك وبصفاتك الإثباتية والسلبية والإضافية ضرورية ، عِوَض علومهم هذه المتحقّقة الآن ، التي هي نظرية ؛ لا نكشف لهم ما ليس الآن على حدّ ذلك الكشف والوضوح . ولا شبهةَ أنَّ العبادة والخدمة على قَدْر المعرفة بالمعبود ، فكلّما كان العابد به أعرفَ ، كانت عبادته له أعظَم ، ولا شبهة أنّ العظيم عند الأعظم حقير .

1.إن مسألة تفضيل الملائكة على سائر المخلوقات رأي انفردت به المعتزلة . بينما ذهب أهل السنّة والجماعة إلى تفضيل المؤمنين عليهم بل الآدميين ، والنبي صلى الله عليه و آله وسلم أفضل من الآدميين وغيرهم . [شرح صحيح مسلم للنووي ۵ : ۳۷ . البحر الرائق لابن نجيم المصري ۱ : ۵۸۲ . حاشية رد المحتار لابن عابدين ۱ : ۵۶۸] . أما الإمامية فقد أجمعوا على تفضيل الأنبياء على الملائكة [رسائل المرتضى ۱ : ۱۱۰ ، ۱۵۶ ]وأن الأئمة الاثني عشر أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السابقين والملائكة وغيرهم ، وأن الأنبياء أفضل من الملائكة . [أمالي الصدوق ص۷۳۸ ، علل الشرائع ۱ : ۵ . والفصول المهمة للحرّ العاملي ۱ : ۴۰۳] .

2.سورة فصلت ۸ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
376

عُمُرِهِ ، وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ ! فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ ، يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وَجُوهِهِمْ ، يَرَى حَرَكَاتِ ألسِنَتِهِمْ ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَـلاَمِهِمْ . ثُمَّ ازْدَادَ المَوْتُ الْتِيَاطاً به ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ ، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ . لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً ، وَلاَ يُجِيبُ دَاعِياً . ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الأرْض ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ .
حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، وَالْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ ، وَاُلحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ ، وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ ، أَمَادَ السَّمَاءَ وَفَطَرَهَا ، وَأَرَجَّ الْأَرْضَ وَأَرْجَفَهَا ، وَقَلَعَ جِبَالَها وَنَسَفَهَا ، وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ ، وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا ، فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهمْ ، وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ ، ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِما يُريدُهُ مِنْ مَسْألتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الأعْمَالِ وَخَبَايَا الأفْعَالِ ، وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ : أنْعَمَ عَلَى هؤلاَءِ وَانْتَقَمَ مِنْ هؤلاَءِ . فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ ، وَخَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ ، حَيْثُ لاَيَظْعَنُ النُّزَّالُ ، وَلاَ تَتَغَيْرُ بِهِمُ الْحَالُ ، وَلاَ تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ ، وَلاَ تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ ، وَلاَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ ، وَلاَ تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ . وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ ، وَغَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ ، وَقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ ، وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ ، وَمُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ ، فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ ، وَبَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ ، فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَلَجَبٌ ، وَلَهَبٌ سَاطِعٌ ، وَقَصِيفٌ هَائِلٌ ، لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا وَلاَ يُفَادَى أَسِيرُهَا ، وَلاَ تُفْصَمُ كُبُولُهَا . لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى ، وَلاَ أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى .

الشّرْحُ :

هذا موضع المثل : « في كلّ شجرة نار ، واستمجد المرْخ والعفار » ، الخطب الوعظية الحسان كثيرة ؛ ولكن هذا حديث يأكل الأحاديث :
محاسن أصناف المغنين جمةٌوما قصباتُ السَّبْق إلاّ لمعبد
من أراد أن يتعلّم الفصاحة والبلاغة ، ويعرف فضلَ الكلام بعضه على بعض ؛ فليتأمل هذه الخطبة ؛ فإن نسبتها إلى كلّ فصيح من الكلام ـ عدا كلام اللّه ورسوله ـ نسبة الكواكب المنيرة الفلكيّة إلى الحجارة المظلمة الأرضية ، ثم لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء ، والجلالة والرّواء ، والديباجة ، وما تحدثه من الروعة والرهبة ، والمخافة والخشية ؛ حتى لو تليتْ على زندِيق ملحد مصمّم على اعتقاد نفيِ البعث والنّشور لهدّت قواه ، وأرعبت قلبه ، وأضعفت على نفسه ، وزلزلت اعتقاده ، فجزى اللّه قائلها عن الإسلام أفضل ما جزى به وليّاً من أوليائه ؛ فما أبلغ نصرته له ؟! تارةً بيده وسيفه ، وتارة بلسانه ونطقه ، وتارة بقلبه وفكره ! إن قيل جهاد وحرب ، فهو سيّد المجاهدين والمحاربين ، وإن قيل وعظٌ وتذكير ، فهو أبلغُ الواعظين والمذكّرين ، وإن قيل فقهٌ وتفسير ، فهو رئيس الفقهاء والمفسّرين ، وإن قيل عدل وتوحيد ، فهو إمام أهل العدل والموحّدين :

ليس على اللّه بمستنكَرٍأن يجمع العالم في واحدِ
ثم نعود إلى الشرح ، فنقول : قوله عليه السلام : « أسكنتهم سماواتك » ، لا يقتضى أنّ جميع الملائكة في السماوات ، فإنه قد ثبت أنّ الكرام الكاتبين في الأرض ، وإنما لم يقتض ذلك ؛ لأنّ قوله : « من ملائكة » ليس من صيغ العموم ؛ فإنه نكرة في سياق الإثبات . وقد قيل أيضا : إنّ ملائكة الأرض تعرُج إلى السماء ومسكنها بها ، ويتناوبون على أهل الأرض . قوله : «هم أعلمُ خَلْقك بك » ، ليسَ يعني به أنّهم يعلمون من ماهيته تعالى ما لا يعلمه البشر .
[بل ، الوجه الذي يُحمل عليه قوله هذا ، هو] أنّهم يعلمون من تفاصيل مخلوقاته وتدبيراته ما لا يعلمه غيرهم ، كما يقال : وزير الملك أعلمُ بالملكِ من الرعية ، ليس المراد أ نّه أعلم بذاته وماهيّته ، بل بأفعاله وتدبيره ومراده وغرضه . قوله : « وأخوفهم لك » ؛ لأنّ قوّتي الشهوة والغضب مرفوعتان عنهم ، وهما منبع الشرّ ، وبهما يقع الطمع والإقدام على المعاصي . وأيضا فإنّ منهم مَنْ يشاهد الجَنّة والنار عياناً ، فيكون أخوفَ ؛ لأ نّه ليس الخبر كالعيان . قوله : « وأقربهم منك » لا يريد القربَ المكانيّ ؛ لأ نّه تعالى منزّه عن المكان والجهة ، بل المراد كثرة الثواب وزيادة التعظيم والتبجيل . ثمّ نَبّه على مزيّة لهم تقتضِي أفضليّةَ جنسِهم على جنْس البشر ؛ بمعنى الأشرفيّة ، لا بمعنى زيادة الثواب ، وهو قوله : « لم يسكنُوا الأصلاب ولم يضمَّنوا الأرحام ، ولم يخلقوا من ماء مَهِين ، ولم يتشعّبهم ريبُ

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8814
صفحه از 712
پرینت  ارسال به