375
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهينٍ ، وَلَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ ؛ وَإِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهمْ مِنْكَ ، وَمَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ ، وَاسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ ، وَكَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ ، وَقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ ، لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ ، وَلَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَلَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ، وَلَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ .
سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَمَعْبُوداً ! بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً ، وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً : مَشْرَباً وَمَطْعَماً ، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً ، وَقُصُوراً ، وَأَنْهَاراً ، وَزُرُوعاً ، وَثِمَاراً .
ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا ، فَـلاَ الدَّاعِيَ أَجَابُوا ، وَلاَ فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا ، وَلاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا . أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدْ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا ، وَمَنْ عَشِقَ شَيئاً أَعْشَى بَصَرَهُ ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ ، وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ ، وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا ، وَلِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا ، حَيْثُما زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا ، وَحَيْثُما أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا ، لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اللّهِ بِزَاجِرٍ ، وَلاَيَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ ، وَهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ ، حَيْثُ لاَ إِقَالَةَ لَهُمْ وَلاَ رَجْعَةَ ؛ كَيْفَ نَزَلَ بِهمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ ، وَقَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ . فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهمْ ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ ، وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً ، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ مَنْطِقِهِ ، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ ، عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ ، وَبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ ! وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا ، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا ، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا ، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا ، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا ، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا ، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ ، وَالْعِب ءُ عَلَى ظَهْرِهِ . وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا ، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ ، وَيَزْهَدُ فِيَما كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
374

وغلبت إرادته إرادتنا ، ولكنّه تعالى أراد منّا أن نفعل نحن الطاعة اختيارا ، فلا يدلّ عدم وقوعها منّا على نقصه وضعفه ، كما لا يدلّ عدمُ وقوع ما أمر به على ضعفه ونقصه .
ثم قال عليه السلام : « كلّ سرّ عندك علانية » ، أي لا يختلف الحال عليه في الإحاطة بالجهر والسرّ ؛ لأ نّه عالم لذاته ، ونسبة ذاته إلى كلّ الأُمور واحدة . ثم قال : « أنت الأبد فلا أمدَ لك » ، هذا كلام عُلْويّ شريف ، لا يفهمه إلاّ الراسخون في العلم ، وفيه سِمَة من قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « لا تسبّوا الدهر ، فإن الدهر هو اللّه » ، وفي مناجاة الحكماء لمحة منه أيضا ، وهو قولهم : « أنت الأزل السَّرْمد وأنت الأبد الَّذي لا ينفد » ، بل قولهم : « أنت الأبَد الذي لا ينفد » ، هو قوله : « أنت الأبد فلا أمَد لك » ، بعينه ، ونحن نشرحه هاهنا على موضوع هذا الكتاب ، فإنه كتاب أدب لا كتاب نظر ، فنقول : إن له في العربية محمليْن :
أحدهما : أنّ المراد به : أنت ذو الأبد ، كما قالوا : رجل خالٍ ، أي ذو خال ؛ والخال : الخُيَلاء .
والمحمل الثاني : أ نّه لما كان الأزل والأبد لا ينفكَّان عن وجوده سبحانه ، جعله عليه السلام كأنّه أحدهما بعينه .
وقوله : « فلا منجى منك إلاّ إليك » قد أخذه الفرزدق فقال لمعاوية :

إليك فررتُ منك ومن زيادٍولم أحسب دَمِي لَكُمَا حلالاَ ۱
ثم استعظم واستهول خلْقه الذي يراه ، وملكوته الذي يشاهده ، واستصغر واستحقر ذلك ، بالإضافة إلى قدرته تعالى ، وإلى ما غاب عَنّا من سلطانه . ثم تعجّب من سُبوغ نعمه تعالى في الدنيا ، واستصغر ذلك بالنسبة إلى نعم الآخرة ، وهذا حقّ ؛ لأ نّه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي .

الأصْلُ :

۰.ومنها :مِنْ مَلاَئِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ؛ هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ ، وَأَخْوَفُهُمْ لَكَ ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْكَ؛ لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلاَبَ ، وَلَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ ، وَلَمْ

1.ديوانه ۲ : ۶۰۸ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8823
صفحه از 712
پرینت  ارسال به