373
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

الشّرْحُ :

قال : كلّ شيء خاضع لعظمة اللّه سبحانه ، وكلّ شيء قائم به ، وهذه هي صفته الخاصة ، أعني كونَه غنياً عن كلّ شيء ، ولا شيء من الأشياء يغني عنه أصلاً . ثم قال : « غنى كلّ فقير ، وعزّ كلّ ذليل ، وقوة كلّ ضعيف ، ومفزع كلّ ملهوف » . جاء في الأثر : من اعتزّ بغير اللّه ذَلّ ، ومن تكثَّر بغير اللّه قَلّ ؛ وكان يقال : ليس فقيرا من استغنى باللّه .
واستدلّ العلماءُ على ثبوت الصانع سبحانه بما دلّ عليه فحوى قوله عليه السلام : « ومفزع كلّ ملهوف » ، وذلك أنّ النفوس ببدائهها تفزع عند الشدائد والخطوب الطارقة إلى الالتجاء إلى خالقها وبارئها ، ألا ترى راكبي السفينة عند تلاطم الأمواج ، كيف يجأرون إليه سبحانه اضطرارا لا اختيارا ، فدلّ ذلك على أنّ العلم به مركوز في النفس ، قال سبحانه : « وَإذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاهُ » ۱ .
ثم قال عليه السلام : « من تكلّم سَمِعَ نطقه ، ومَنْ سكَت علم سرّه » ، يعني أنه يعلم ما ظهر وما بطن . ثم قال : « ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبُه » ، أي هو مدبّر الدنيا والآخرة ، والحاكم فيهما . ثم انتقل عن الغيبة إلى الخطاب ، فقال عليه السلام : « لم ترك العيون فتخبر عنك » . قال عليه السلام : ما رأتك العيون فتخبر عنك ، كما يخبر الإنسان عما شاهده ، بل أنت أزليّ قديم موجود قبل الواصفين لك . ثم ذكر عليه السلام أ نّه لم يخلق الخلْق لاستيحاشه وتفرّده ، ولا استعملهم بالعبادة لنفعه سبحانه ؛ ثم قال : لا تطلب أحدا فيسبقك ، أي يفوتك ، ولا يفلتك من أخذته .
فإن قلت : أي فائدة في قوله : « ولا يفلتك من أخذته » ؛ لأنّ عدم الإفلات هو الأخذ ، فكأنّه قال : لا يفلتك من لم يفلتك!
قلت : المراد أنّ مَنْ أخذت لا يستطيع أن يُفْلِت ، كما يستطيع المأخوذون مع ملوك الدنيا أن يفلِتُوا بحيلة من الحِيَل .
قوله عليه السلام : « ولا يردّ أمرَك مَنْ سَخِط قضاءك ، ولا يستغني عنك مَنْ تولّى عن أمرك » ، تحته سر عظيم ، في جواب قول المجبِّرة : لو وقع منّا ما لا يريده لاقتضى ذلك نقصه : إنه لا نقص في ذلك ؛ لأ نّه لا يريد الطاعات منّا إرادة قَهْر وإلجاء ، ولو أرادَها إرادة قهر لوقعتْ

1.سورة الإسراء ۶۷ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
372

للأسد . وغار الماء : سفل لنقصه ، وفاض : سال . وتشاجر الناس : تنازَعُوا وهي المشاجرة ، وشَجَر بين القوم ، إذا اختلف الأمر بينهم ، واشتجروا ؛ مثل تشاجروا . وصار الفسوق نسباً يصير الفاسق صديق الفاسق ، حتى يكون ذلك كالنسب بينهم ، وحتى يعجب الناس من العفاف لقلّته وعدمه . ولُبِس الإسلام لبس الفرو ، وللعرب عادة بذلك ، وهي أن تجعل الخَمْل إلى الجسد ، وتظهر الجلد ، والمراد انعكاس الأحكام الإسلامية في ذلك الزمان .

۱۰۸

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلامكُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ : غِنى كُلِّ فَقِيرٍ ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيل ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ . مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ . لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ ، بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ . لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ ، وَلاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ ، وَلاَ يَسْبِقُكَ مَنْ طلَبْتَ ، وَلاَ يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ ، وَلاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ ، وَلاَ يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ ، وَلاَ يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ ، وَلاَ يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ . كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ ، وَكُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ . أَنْتَ الْأَبَدُ فَـلاَ أَمَدَ لَكَ ، وَأَنْتَ الْمُنْتَهَى فَـلاَ مَحِيصَ عَنْكَ ، وَأَنْتَ الْمَوْعِدُ فَـلاَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاّ إِلَيْكَ . بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَإِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ .
سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأ نَكَ ! سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ ! وَمَا أصْغَرَ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ ! وَمَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ ! وَمَا أَحْقَرَ ذلِكَ فِيَما غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ ! وَمَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا ، وَمَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الآخِرَةِ!

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8432
صفحه از 712
پرینت  ارسال به