371
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

الشّرْحُ :

تقول : أخذ الباطل مأخذه ، كما تقول عمل عمله ، أي قوى سلطانه وقهر ، ومثله « ركب الجهل مراكبه » . وعظمت الطاغية ، أي الطغيان ، فاعلة بمعنى المصدر ، كقوله تعالى : « لَيْسَ لِوَقْعَتِها كَاذِبَةٌ » ۱ ، أي تكذيب ، ويجوز أن تكون الطاغية هاهنا صفة فاعل محذوف ، أي عظمت الفئة الطاغية . وقلّت الداعية : مثله ، أي الفرقة الداعية . وصال : حمل ووثب ، صَوْلاً وصَوْلَةً ، يقال : ربّ قول أشدُّ من صَوْل ، والصِّيال والمصاولة هي المواثبة ، صايله صِيالاً وصيالةً والفحلان يتصاولان ، أي يتواثبان . والفنيق : فحل الإبل . وهدَرَ : ردّد صوته في حَنْجَرتِه ، وإبل هوادر ؛ وكذلك هدّر بالتشديد تهديرا ، وفي المثل : « هو كالمهدر في العُنّة » يضرب للرجل يصيح ويجلب وليس وراء ذلك شيء كالبعير الذي يُحبَس في العنّة ، وهي الحظيرة ، ويمنَع من الضِّراب ، وهو يهدر . والكُظوم : الإمساك والسكوت ، كَظَم البعير يكظِم كظوما ، إذا أمسك الجِرّة ؛ وهو كاظم ، وإبل كُظُوم لا تجترّ ، وقوم كُظْم ساكتون . وتواخي الناس : صاروا إخوة ، والأصل تآخي الناس ، فأُبدلت الهمزة واواً ، كآزرته أي أعنته ، ووازرته . يقول اصطلحوا على الفجُور ، وتهاجروا على الدين ، أي تعادَوْا وتقاطعوا .
فإن قلت : فإنّ من شعار الصالحين أن يهجُروا في الدين ويعادوا فيه!
قلت : لم يذهب أميرُ المؤمنين حيث ظنَنت ، وإنما أراد أنّ صاحب الدين مهجور عندهم ؛ لأنّ صاحب الدين مهجور وصاحب الفجور جارٍ عندهم مجرى الأخ في الحنوّ عليه ، والحبّ له ؛ لأ نّه صاحب فجور .
ثم قال : « كان الولد غيظا » ، أي لكثرة عقوق الأبناء للآباء ، « وصار المطر قيظاً » ۲ يقال إنه من علامات الساعة وأشراطها . وأوساطُه أكَالاً ، أي طعاما ، يقال : ما ذقتُ أكالاً ، وفي هذا الموضع إشكال ؛ لأ نّه لم ينقل هذا الحرف إلاّ في الجَحْد خاصة ، كقولهم : ما بها صافر ، فالأجود الرواية الأُخرى ؛ وهي « آكالاً » بمد الهمزة على « أفعال » جمع أُكْل ؛ وهو ما أُكل ، كقُفْل وأقفال . يقول : صار أوساط الناس طُعْمة للولاة وأصحاب السلاطين ، وكالفريسة

1.سورة الواقعة ۲ .

2.المراد بالمطر هنا وفي بعض الروايات ، الخير والخصب ، وبالقيظ ، المحْل والجدْب ، وكون المطر قيظا كناية عن الجدْب والشر بسبب الجور والظلم وسيطرة الطغاة على خيرات الأرض واحتكارها عن أهلها ، فتكون شرّا عليهم .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
370

وقوله : « ولكل أجل كتاب » أظنه منقطعا أيضا عن الأول مثل الفصل الذي تقدم ، وقد كان قبله ما ينطبق عليه ويلتئم معه لا محالة . ويمكن على بعد أن يكون متصلاً بما هو مذكور هاهنا . وقوله : « ولكل غيبة إياب » قد قاله عبيد بن الأبرص ، واستثنى من العموم الموت ، فقال :

وكلِّ ذي غَيْبَةٍ يئوبُوغائب الموت لا يئوبُ
وهو رأي زنادقة العرب ؛ فأمّا أمير المؤمنين ، وهو ثاني صاحب الشريعة التي جاءت بعوْد الموتى ، فإنه لا يستثنى ، ويحمّق عُبيداً في استثنائه . والربانيّ : الذي أمرهم بالاستماع منه ؛ إنما يعني به نفسَه عليه السلام ، ويقال : رجل ربانيّ أي متأله عارف بالربّ سبحانه . وفي وصف الحسَن لأمير المؤمنين عليه السلام : « كان واللّه ربانيّ هذه الأُمّة وذَا فضلها ، وذا قرابتها ، وذا سابقتها » . ثم قال : وأحضروه قلوبكم ، أي اجعلوا قلوبكم حاضرةً عنده ، أي لا تقنعوا لأنفسكم بحضور الأجساد وغيبة القلوب ، فإنّكم لا تنتفعون بذلك . وهتف بكم : صاح . والرائد : الذي يتقدَّم المنتجعين لينظر لهم الماء والكلأ . وفي المثل : الرائد لا يكذب أهله .
وقوله : « وليجمع شمله » ، أي وليجمع عزائمه وأفكاره لينظر ، فقد فَلَق هذا الربانيّ لكم الأمر ، أي شقَّ ما كان مبهما ، وفتح ما كان مغلقا ، كما تفلق الخرزة فيعرَف باطنها . وقَرَفه ، أي قشره ، كما تقشر الصمغة عن عود الشجرة ، وتقلع .

الأصْلُ :

۰.فَعِنْدَ ذلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ ، وَرَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ ، وَعَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ ، وَقَلَّتِ الدَّاعِيَةُ ، وَصَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ ، وَهَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ ، وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ ، وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ ، وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ ، وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ .فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً ، وَالْمَطَرُ قَيْظاً ، وَتَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً ، وَتَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً ، وَكَانَ أَهْلُ ذلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً ، وَسَلاَطِينُهُ سِبَاعاً ، وَأَوْسَاطُهُ أُكَّالاً ، وَفُقَرَاؤهُ أَمْوَاتاً؛ وَغَارَ الصِّدْقُ ، وَفَاض الْكَذِبُ ، وَاسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ ، وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ ، وَصَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً ، وَالْعَفَافُ عَجَباً ، وَلُبِسَ الاْءِسْلاَمُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8705
صفحه از 712
پرینت  ارسال به