359
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

أَهْلِهَا . فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْويحِ نَبْتِهِ ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ مُسْتَثَارِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ ، وَانْهَوْا عَنْ المُنْكَرِ وَتَنَاهَوْا عَنْهُ ، فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بالنَّهْي بَعْدَ التَّنَاهِي!

الشّرْحُ :

هَارَ الجرْف يهورُ هَوْرا وهئورا فهو هائر ؛ وقالوا : « هارٍ » ، خفضوه في موضع الرفع ، كقاضٍ ، وأرادوا « هائر » ، وهَوّرته ، فتهوّر وانهار : أي انهدم . وأشكيت زيداً : أزلت شكايته . والشجو : الهمّ والحزن . وصوّح النبت ، أي جفّ أعلاه .
يقول عليه السلام : أشدّ العيون إدراكا ما نفذ طرفُها في الخير ، وأشدّ الأسماع إدراكا ما حفظ الموعظة وقَبِلها . ثم أمر الناس أن يستصبِحوا ، أي يُسرجوا مصابيحَهم من شعلة سراج . متّعظٍ في نفسه واعظ لغيره ؛ وروي بالإضافة من « شعلة مصباحِ واعظ » بإضافة « مصباح » إلى « واعظ » ، وإنما جعله متّعظا واعظا ؛ لأنّ مَنْ لم يتّعظ في نفسه فبعيد أن يتّعظ به غيرُه ؛ وذلك لأنّ القبول لا يحصل منه ، والأنفس تكون نافرةً عنه ، ويكون داخلاً في حَيّز قوله تعالى : « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بالْبرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ » ۱ . وعَنَى بهذا المصباح نفسَه عليه السلام .
ثم أمرهم أن يمتاحوا من عين صافيةٍ قد انتفَى عنها الكدر ، كما يروّق الشراب بالراووق فيزول عنه كدره ، والامتياح : نزول البئر ومل ء الدّلاء منها ، ويكنِي بهذا أيضاً عن نفسه عليه السلام . ثم نهاهم عن الانقياد لأهوائهم والميل إلى جهالتهم ، وقال : إنّ من يكون كذلك ، فإنه على جانب جُرُفٍ متهدّم ، ولفظة « هارٍ » من الألفاظ القرآنية .
ثم قال : ومَنْ يكون كذلك ، فهو أيضا ينقل الهلاك على ظهره من موضع إلى موضع ؛ ليُحدِث رأيا فاسداً بعد رأي فاسد ، أي هو ساعٍ في ضلال يروم أن يحتجّ لما لا سبيل إلى إثباته ، وينصر مذهباً لا انتصار له .
ثم نهاهم وحذّرهم أن يشكُوا إلى مَنْ لا يزيل شِكايتهم ، ومَنْ لا رأي له في الدين ، ولا بصيرة؛ لينقض ما قد أبرمه الشيطان في صدورهم لإغوائهم . ويروى : « إلى من لا يشكي شجوَكم ، ومَنْ ينقض برأيه ما قد أبرم لكم » ، وهذه الرواية أليق ، أي لا تشكُوا إلى مَنْ

1.سورة البقرة ۴۴ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
358

مبسوطة ، وأيدي مستحقّي الرّئاسة ومستوجبي الأمر مكفوفة ، وسيوفكم مسلّطة على أهل البيت الذين هم القادة والرؤساء ، وسيوفهم مقبوضة عنكم ؛ وكأنّه كان يرمز إلى ما سيقع من قَتْل الحسين عليه السلام وأهله ، وكأنّه يشاهد ذلك عياناً ، ويخطب عليه ويتكلّم على الخاطر الذي سَنَح له ، والأمر الذي كان أخبر به ، ثم قال : إنّ لكلّ دمٍ ثائراً يطلب القَوَد ، والثائر بدمائنا ليس إلاّ اللّه وحدَه ، الذي لا يُعجزه مطلوب ، ولا يفوته هارب .
ومعنى قوله عليه السلام : « كالحاكم في حق نفسه » ، أ نّه تعالى لا يقصّر في طلب دمائنا كالحاكم الذي يحكم لنفسه ، فيكون هو القاضي وهو الخصم ، فإنه إذا كان كذلك يكون مبالغا جداً في استيفاء حقوقه .
ثم أقسم وخاطب بني أُميّة ، وصرّح بذكرهم أنّهم ليعرفنّ الدنيا عن قليل في أيدي غيرهم وفي دورهم ، وأنّ الملك سينتزعه منهم أعداؤهم ، ووقع الأمر بموجب إخباره عليه السلام ، فإنّ الأمر بقيَ في أيدي بني أُميّة قريبا من تسعين سنة ، ثم عاد إلى البيت الهاشميّ ، وانتقم اللّه تعالى منهم على أيدي أشدّ الناس عداوة لهم .

الأصْلُ :

۰.أَلاَ إِنَّ أَبْصَرَ الْأَبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَيْرِ طَرْفُهُ ! أَلاَ إِنَّ أَسْمَعَ الْأَسْمَاعِ مَا وَعَى التَّذْكِيرَ وَقَبِلَهُ!
أَيُّهَا النَّاسُ ، اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحِ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ ، وَامْتَاحُوا مِنْ صَفْوِ عَيْنٍ قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ الْكَدَرِ .
عِبَادَ اللّهِ ، لاَ تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ ، وَلاَ تَنْقَادُوا إلَى أهْوَائِكُم ؛ فَإِنَّ النَّازِلَ بِهذَا الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَارٍ ، يَنْقُلُ الرَّدَى عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ ، لِرَأيٍ يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأيٍ؛ يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لاَ يَلْتَصِقُ ، وَيُقَرِّبَ مَا لاَ يَتَقَارَبُ!
فَاللّه اللّه أَنْ تَشْكُوا إِلَى مَنْ لاَ يُشْكِي شَجْوَكُمْ ، وَلاَ يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَكُمْ . إِنَّهُ لَيسَ عَلَى الاْءِمَامِ إِلاَّ مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ : الاْءبْلاَغُ فِي الْمَوْعِظَةِ ، وَالاِجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ ، وَالاْءِحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا ، وَإِصْدَارُ السُّهْمَانِ عَلَى

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8486
صفحه از 712
پرینت  ارسال به