آثَارِ الْأَوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ ، وَفِي آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ؟ أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ، وَإِلَى الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لاَ يَبْقَوْنَ ؟! أَوَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى : فَمَيِّتٌ يُبْكَى ، وَآخَرُ يُعَزَّى ، وَصَرِيعٌ مُبْتَلىً ، وَعَائِدٌ يَعُودُ ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ ، وَطَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ ، وَغَافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ؛ وَعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي ؟!
أَلاَ فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ ، وَقَاطِعَ الْأُمْنِيَاتِ ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ؛ وَاسْتَعِينُوا اللّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ ، وَمَا لاَ يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ .
الشّرْحُ :
لما كان الماضي معلوما جعل الحمد بإزائه ؛ لأنّ المجهول لا يحمَد عليه ، ولما كان المستقبل غيرَ معلوم جعل الاستعانة بإزائه ؛ لأنّ الماضيَ لا يُستعان عليه ، ولقد ظَرُف وأبدع عليه السلام في قوله : « ونسألُه المعافاة في الأديان ، كما نسأله المعافاة في الأبدان » ، وذلك أنّ للأديان سُقْما وطبّا وشفاء ، كما أنّ للأبدان سُقما وطبّا وشفاء .
قوله عليه السلام : « الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبُّوا تركها » معنىً حسن ، ومنه قول أبي الطّيّب :
كلّ دَمْعٍ يسيلُ منها عليْهَاوبفكّ اليدينِ عنها تُخَلّي
والرفض : التَّرْك ؛ وإبل رَفْض : متروكة ترعى حيث شاءت . وقوم سَفْر ، أي مسافرون . وأمُّوا : قصدوا . والعَلَم : الجبل أو المنار في الطريق يهتدى به . وكأنّ في هذه المواضع كهي في قوله : « كأنّك بالدنيا لم تكُنْ ، وكأنّك بالآخرة لم تزل ، ما أقرب ذلك وأسرعه ! » ، وتقدير الكلام هاهنا : كأنّهم في حال كونهم غير قاطعين له قاطعون له ، وكأنهم في حال كونهم غيرَ بالغين له بالغون له ؛ لأ نّه لما قرب زمان إحدى الحالتيْن من زمان الأُخرى شُبِّهوا وهم في الحال الأُولى بهم أنفسِهم وهم على الحال الثانية .
قوله عليه السلام : « وكم عسى المجرى » أجْرَى فلان فرسه إلى الغاية إذا أرسلها ، ثم نقل ذلك إلى كلّ مَنْ يقصِد بكلامه معنىً أو بفعله غرضا ، فقيل : فلان يجرِي بقوله إلى كذا ، أو يجرِي