327
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

قوله عليه السلام : « إن الفتَن إذا أقبلت شَبّهت » ، معناه أنّ الفتن عند إقبالها وابتداء حدوثها، يلتبس أمرها ولا يُعلم الحقّ منها من الباطل ، إلى أن تنقضي وتدبِر ؛ فحينئذٍ ينكشف حالها ، ويعلم ما كان مشتبهاً منها . ثم أكّد عليه السلام هذا المعنى بقوله : « ينكَرْن مقبلات ، ويعرَفن مدبرات » ، ومثال ذلك فتنة الجمل ، وفتنة الخوارج ، كان كثير من الناس فيها في مبدأ الأمر متوقّفين ، واشتبه عليهم الحال ، ولم يعلموا موضع الحقّ إلى أن انقضت الفتنة ، ووضعت الحرب أوزارها ، وبان لهم صاحبُ الضلالة من صاحب الهداية .
ثم وصف الفتن ، فقال : إنها تحُوم حَوْم الرياح ، يصبن بلدا ، ويخطئن بلداً . حام الطائر وغيرُه حول الشيء ، يحوم حَوْما وحَوَماناً ، أي دار . ثم ذكر أنّ أخوف ما يخاف عليهم فتنة بني أميّة . ومعنى قوله : « عَمّت خطتها ، وخصّت بليّتها » ، أنها عمّت الناس كافة من حيث كانت رياسة شاملة لكلّ أحد ؛ ولكن حظّ أهل البيت : وشيعتهم من بليّتها أعظم ، ونصيبهم فيها أوفر .
ومعنى قوله : « وأصاب البلاء مَنْ أبصر فيها ، وأخطأ البلاء من عَمي عنها » ، أن العالم بارتكابهم المنكر مأثوم إذ لم ينكر ، والجاهل بذلك لا إثم عليه إذا لم ينههم عن المنكر .
ثم أقسم عليه السلام فقال : « وايم اللّه » ، وأصله : وأيمنُ اللّه . فأقسم عليه السلام لأصحابه أنّهم سيجدون بني أُميّة بعده لهم أرباب سوء ، وصدَقَ صلوات اللّه عليه فيما قال ، فإنّهم ساموهم سوء العذاب قَتْلاً وصلباً ، وحَبْساً وتشريداً في البلاد .
ثم شبّه بني أُميّة بالنَّاب الضّروس ، والنّاب : الناقة المسنّة ، والجمع نيب ، تقول : لا أفعله ما حَنّت النيب . والضّروس : السيئة الخُلْق تعضّ حالبها . وتعذِم بفيها : تكدم ، والعذْم : الأكل بجفاء ، وفرس عَذُوم : يعضّ بأسنانه . والزَّبْن : الدفع ، زبنتِ الناقة تزبِنُ ، إذا ضربت بثَفِناتها عند الحلْب ، تدفع الحالب عنها . والدّرّ : اللبن ، وفي المثل « لا درّ دَرُّه » الأصل « لبنهُ » ، ثم قيل لكل خير ، وناقة دَرُور ، أي كثيرة اللبن . ثم قال : لا يزالون بكم قتلاً وإفناءً لكم حتى لا يتركوا منكم إلاّ من ينفعهم إبقاؤه ، أو لا يضرهم ولا ينفعهم ، قال : حتى يكون انتصار أحدكم منهم كانتصار العبْد من مولاه ، أي لا انتصارَ لكم منهم ؛ لأنّ العبد لا ينتصر من مولاه أبداً . وقد جاء في كلامه عليه السلام في غير هذا الموضع تتمة هذا المعنى : « إن حضر أطاعه ، وإن غاب سَبَعه » ، أي ثلبه وشتمه ، وهذه أمارة الذلّ .
قال عليه السلام : « والصاحب من مستصحِبه » ، أي والتابع من متبوعه . والشُوه : جمع شَوْهاء ؛ وهي القبيحة الوجه ؛ شاهت الوجوه تشوه شَوْها ، قُبحت ، وشوّهه اللّه فهو مشوّه ؛ وهي


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
326

وتضلّ بها مئة ، إلاّ وهو مخبرٌ لهم ـ إن سألوه ـ برعاتها ، وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ؛ ومَنْ يقتل منها قتلاًَ ، ومَنْ يموت منها موتاً ؛ وهذه الدعوى ليست منه عليه السلام ادّعاء الرّبوبية ، ولا ادّعاء النبوة ؛ ولكنه كان يقول : إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمأخبَره بذلك ، ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً ، فاستدلَلْنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة ، كإخباره عن الضربة التي يُضرب بها في رأسه فتُخضِب لحيته ، وإخباره عن قتل الحسين ابنه عليهماالسلام ؛ وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها ، وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده ، وإخباره عن الحجّاج ؛ وعن يوسف بن عمر ؛ وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان .
فإن قلت : لماذا قال عن فئة تهدي مئة ؟ وما فائدة التقييد بهذا العدد؟
قلت : لأنّ ما دون المئة حقير تافه لا يعتدّ به ليذكر ويخبَر عنه ، فكأنه قال : مئة فصاعداً .
قوله عليه السلام : « كرائه الأُمور » : جمع كريهة وهي الشدّة في الحرب . وحوازب الخطوب : جمع حازب ، وحَزَبه الأمر ، أي دَهمه . وفشل : جبن .
فإن قلت : أمّا فشل المسؤول فمعلوم ، فما الوجه في إطراق السائل؟
قلت : لشدة الأمر وصعوبته ؛ حتى إن السائل ليبهت ويدْهش فيطرِق ، ولا يستطيع السؤال .
قوله عليه السلام : « إذا قَلَصت حربكم » يروى بالتشديد وبالتخفيف ، ويروى : « عن حربكم » ؛ فمن رواه مشدداً أراد انضمّت واجتمعت ؛ وذلك لأ نّه يكون أشدّ لها وأصعب من أن تتفرّق في مواطن متباعدة ، ومن رواها بالتخفيف أراد كثرت وتزايدت ، من قولهم : قَلَصَتِ البئر ، أي ارتفع ماؤها إلى رأسها أو دونه ، ومن روى : « إذا قلّصت عن حربكم » أراد إذا قلّصت كرائه الأُمور وحوازب الخطوب عن حربكم ، أي انكشفت عنها ، والمضارع من قلَص يَقْلِص بالكسر .
قوله : « وشمّرت عن ساق » ، استعارة وكناية ، يقال للجادّ في أمره : قد شمّر عن ساقٍ ؛ وذلك لأنّ سبوغ الذيل مَعْثَرة ، ويمكن أن يجري اللفظ على حقيقته ، وذلك قوله تعالى : « يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ » ۱ فسّروه فقالوا : الساق : الشدّة ، فيكون قد أراد بقوله : « وشمرت عن ساق » ، أي كشفت عن شدّة ومشقة . ثم قال : « تستطيلون أيام البلاء » ؛ وذلك لأنّ أيام البؤس طويلة .

1.سورة القلم ۴۲ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8548
صفحه از 712
پرینت  ارسال به