281
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

۸۸

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلامأَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَاعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ ، وَانْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ ، وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ ، وَالدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ ؛ عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا ، وَإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا ، وَاغْوَارٍ مِنْ مَائِهَا ، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى ، وَظَهَرَتْ أَعْلاَمُ الرَّدَى ، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا ، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا . ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ ، وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ ، وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ .
فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللّهِ ، وَاذْكُرُوا تِيَكَ الَّتِي آباؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ ، وَعَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ . وَلَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ وَلاَ بِهِمُ الْعُهُودُ ، وَلاَ خَلَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمُ الأحْقَابُ وَالقُرُونُ ، وَمَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمِ كُنْتُمْ فِي أَصْلاَبِهِمْ بِبَعِيدٍ .
وَاللّهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئا إِلاَّ وَهَا أَنَا ذَا مُسْمِعُكُمُوهُ ، وَمَا أَسْمَاعُكُمُ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالْأَمْسِ ، وَلاَ شُقَّتْ لَهُمُ الْأَبْصَارُ ، وَلاَ جُعِلَتْ لَهُمُ الْأَفْئِدَةُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ ، إِلاَّ وَقَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي هـذَا الزَّمَانِ . وَوَاللّهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئا جَهِلُوهُ ، وَلاَ أُصْفِيتُمْ بِهِ وَحُرِمُوهُ ، وَلَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ الْبَلِيَّةُ جَائِلاً خِطَامُهَا ، رِخْوا بِطَانُهَا ، فَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ ، فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ ، إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودِ .

الشّرْحُ :

الفَترة بين الرسل : انقطاعُ الرّسالة والوحي ؛ وكذلك كان إرسال محمد صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لأنَّ بين محمدوبين عهد المسيح عليه السلام عهدا طويلاً ، أكثر الناس على أ نّه ستمئة سنة ، ولم يرسَل في تلك المدّة رسول ، اللهمّ إلاّ ما يقال عن خالد بن سنان العبسيّ ، ولم يكن نبيّا ولا مشهورا . والهجْعة : النَّوْمة ليلاً ، والهجوع مثله ، وكذلك التَّهْجاع ، بفتح التاء ، فأمّا الهِجْعة بكسر الهاء ؛


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
280

زمانهم من الشيب ، وولاة السوء ، وتنكّر الوقت ؛ وسمَّى المشقّةَ عتْبا ؛ لأنّ العَتْب مصدر عَتَب عليه ، أي وَجَد عليه ، فجعل الزمانَ كالواجد عليهم ، القائم في إنزال مشاقّه بهم مقامَ الإنسان ذي الموجدَة يعتِب على صاحبه . وروي « من عَتَب » ، بفتح التاء جمع عتَبة ؛ يقال : لقد حُمِل فلان على عتَبة ، أي أمر كريه من البلاء ؛ وفي المثل : « مافي هذا الأمر رتَب ولا عتَب » ، أي شدة . وروي أيضا « من عَنَتٍ » وهو الأمر الشاقّ . وما استدبروه من خَطْب ؛ يعني به ما تصرّم عنهم من الحروب والوقائع التي قَضَوْها ونضوها واستدبروها . ويروى : « واستدبرتم من خِصْب » ؛ وهو رخاء العيش ؛ وهذا يقتضي المعنى الأول ، أي وما خلّفتُم وراءكم من الشباب والصحّة وصفو العيشة .
ثم قال : « وما كل ذي قلب بلبيب ... » الكلام إلى آخره ، وهو مأخوذ من قول اللّه تعالى : « لَهُمْ قُلوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا » ۱ . ثم تعجّب من اختلاف حجج الفرق في الدّين وخطئهم وكونهم لا يتبعون أقوالَ الأنبياء ، ولا أقوال الأوصياء ، ثم نَعَى عليهم أحوالهم القبيحة ، فقال : إنهم لا يؤمنون بالغيب ، أي لا يصدقون بما لم يشاهدوه ، ولا يكفُّون عن الأُمور القبيحة ، لكنهم يعملون في الشبهات ، أي يعملون أعمالاً داخلة في الشبهات متوسطة لها . ويسيرون في الشهوات ، جعل الشهوات كالطريق التي يسير فيها الإنسان .
ثم قال : المعروف فيهم ما عرفوه ، أي ليس المعروف عندهم ما دلّ الدليل على كونه معروفا وصوابا وحَقّا ، بل المعروف عندهم ما ذهبوا إلى أنه حَقّ ، سواء كان حقّا في نفس الأمر أو لم يكن ، والمنكر عندهم ما أنكروه كما شرحناه في المعروف . ثم قال : إنهم لا يستشيرون بعالم ، ولا يستفتون فقيهاً فاضلاً ، بل مفزعهم في الأُمور المشكلة إلى أنفسهم وآرائهم ، ولقد صدق عليه السلام ، فإن هذه صفات مَنْ يدّعي العلم والفضل في زماننا وقبله بدهر طويل ، وذلك أنهم يأنفون من التعلّم والاسترشاد ، فالبادئ منهم يعتقد في نفسه أنه أفضلُ من البارع المنتهي .
ثم قال : « كأنّ كلّ واحد منهم إمام نفسه » ، ويروى بحذف « كأنّ » وإسقاطها ، وهو أحسن .

1.سورة الأعراف ۱۷۹ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8296
صفحه از 712
پرینت  ارسال به