أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْلٍ وَبَلاَءٍ ؛ وَفِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ وَمَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ ! وَمَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ ، وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ ، وَلاَ كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ .
فَيَا عَجَبا ! وَمَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هـذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اخْتِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا ! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ ، وَلاَ يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ ، وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ ، وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ ، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ . الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا ، وَالْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا ، مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضَلاَتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ ، كَأَنَّ كُلَّ امْرِى ءٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرىً ثِقَاتٍ ، وَأَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ .
الشّرْحُ :
القَصْم ، بالقاف والصاد المهملة : الكسر ، قصمتُه فانقصم ، وقصّمته فتقصّم ، ورجل أقصم الثنيّة ؛ أي مكسورها ، بيّن القَصَم ، بفتح الصاد . والتمهيل : التأخير . ويروى « رجاء » وهو التأخير أيضا ؛ والرواية المشهورة « ورخاء » ، أي بعد إعطائهم من سعة العيش وخِصب الحال ما اقتضته المصلحة . والأزْل ، بفتح الهمزة : الضيق . ويقتصُّون : يتبعون ، قال سبحانه وتعالى : « وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ » ۱ . ويعِفّون ، بكسر العين ؛ عَفَفْتُ عن كذا ، أعِفُّ عَفّا وعِفَّةً وعَفافة ، أي كففت ، فأنا عفّ وعفيف ، وامرأة عَفّة وعفيفة ، وقد أعفَّه اللّه ، واستعفّ عن المسألة ، أي عفّ . وتعفّف الرجل ، أي تكلّف العِفّة ، ويروى : « ولا يَعْفُون عن عَيْب » ، أي لا يصفحون . ومفزعهم : ملجؤهم . وفيما يُرى ، أي فيما يظنّ ، ويرى بفتح الياء ؛ أي فيما يراه هو . وروي : « بعرىً وثيقات » .
يقول إنّ عادة اللّه تعالى ألاّ يقصِم الجبابرة إلاّ بعد الإمهال والاستدراج ؛ بإفاضافة النعم عليهم ، وألاّ يجير أولياءهم وينصرهم إلاّ بعد بؤس وبلاء يمتحنهم به ، ثم قال لأصحابه : إنّ في دون ما استقبلتم من عَتْب لمعتَبر ، أي من مشقّة ، يعني بما استقبلوه ما لاقَوْه في مستقبل