ربه تعالى جعل نفسه كالمسافر الذي ينتقل من مَنزِلٍ إلى منزل ؛ وجعل الكتاب والعِتْرة كمتاعه وحَشَمه ؛ لأنهما أخصّ الأشياء به .
وقوله : « وركزت فيكم راية الإيمان » ، أي غرزتها وأثبتُّها ؛ وهذا من باب الاستعارة . وكذلك قوله : « ووقفتكم على حدود الحلال والحرام » من باب الاستعارة أيضا ، مأخوذ من حُدود الدار وهي الجهات الفاصلة بينها وبين غيرها .
قوله : « وألبستكم العافية منْ عَدْلِي » استعارة فصيحة ، وأفصح منها قوله : « وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي » ، أي جعلته لكم فراشا ، وفَرَش هاهنا : متعدٍّ إلى مفعولين ، يقال : فرشته كذا ، أي أوسعته إياه .
ثم نهاهم أن يستعملوا الرأي فيما ذكره لهم من خصائص العِترة وعجائب ما منحها اللّه تعالى ، فقال : إنّ أمرنا أمر صعب لا تهتدي إليه العقول ، ولا تدرك الأبصار قعرَهُ ، ولا تتغلغل الأفكار إليه . والتغلغل : الدخول ، من تغلغل الماء بين الشجر ، إذا تخللها ودخل بين أُصولها .
الأصْلُ :
۰.ومنها :حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ ؛ تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا ، وَتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا ، وَلاَ يُرْفَعُ عَنْ هـذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَلاَ سَيْفُهَا ، وَكَذَبَ الظَّانُّ لِذلِكَ . بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً ، ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً!
الشّرْحُ :
معقولة : محبوسة بعقال كما تعقَل الناقة . وتمنحهم : تعطيهم ، والمنح : العطاء ، منحَ يمنَح بالفتح ، والاسم المِنْحَة بالكسر ، واستمنحت زيدا : طلبت مِنْحَته . والدرّ في الأصل : اللَّبَن ، جعل الدنيا كناقة معقولة عليهم تمنحهم لبنها ، ثم استعمل الدَّرّ في كل خير ونفع ، فقيل : لا دَرّ درّه ! أي لا كثُر خيره ، ويقال في المدح : للّه درّه ! أي عمله . ومجّة من لذيذ العيش ، مصدر مَجّ الشراب مِنْ فِيه ، أي رمى به وقَذَفه ، ويقال : انمجّتْ نقطة من القلم ، أي ترشَّشَتْ ، وشيخ ماجّ ، أي كبير يمجّ الريق ، ولا يستطيع حبسه لكبره . ويتطعَّمُونها ؛ أي يذوقونها . وبُرْهة ، أي مدة من الزمان فيها طول . ولفظت الشيء من فمي ، ألفظه لفظا : رميتُه ، وذلك