277
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

ربه تعالى جعل نفسه كالمسافر الذي ينتقل من مَنزِلٍ إلى منزل ؛ وجعل الكتاب والعِتْرة كمتاعه وحَشَمه ؛ لأنهما أخصّ الأشياء به .
وقوله : « وركزت فيكم راية الإيمان » ، أي غرزتها وأثبتُّها ؛ وهذا من باب الاستعارة . وكذلك قوله : « ووقفتكم على حدود الحلال والحرام » من باب الاستعارة أيضا ، مأخوذ من حُدود الدار وهي الجهات الفاصلة بينها وبين غيرها .
قوله : « وألبستكم العافية منْ عَدْلِي » استعارة فصيحة ، وأفصح منها قوله : « وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي » ، أي جعلته لكم فراشا ، وفَرَش هاهنا : متعدٍّ إلى مفعولين ، يقال : فرشته كذا ، أي أوسعته إياه .
ثم نهاهم أن يستعملوا الرأي فيما ذكره لهم من خصائص العِترة وعجائب ما منحها اللّه تعالى ، فقال : إنّ أمرنا أمر صعب لا تهتدي إليه العقول ، ولا تدرك الأبصار قعرَهُ ، ولا تتغلغل الأفكار إليه . والتغلغل : الدخول ، من تغلغل الماء بين الشجر ، إذا تخللها ودخل بين أُصولها .

الأصْلُ :

۰.ومنها :حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ ؛ تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا ، وَتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا ، وَلاَ يُرْفَعُ عَنْ هـذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَلاَ سَيْفُهَا ، وَكَذَبَ الظَّانُّ لِذلِكَ . بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً ، ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً!

الشّرْحُ :

معقولة : محبوسة بعقال كما تعقَل الناقة . وتمنحهم : تعطيهم ، والمنح : العطاء ، منحَ يمنَح بالفتح ، والاسم المِنْحَة بالكسر ، واستمنحت زيدا : طلبت مِنْحَته . والدرّ في الأصل : اللَّبَن ، جعل الدنيا كناقة معقولة عليهم تمنحهم لبنها ، ثم استعمل الدَّرّ في كل خير ونفع ، فقيل : لا دَرّ درّه ! أي لا كثُر خيره ، ويقال في المدح : للّه درّه ! أي عمله . ومجّة من لذيذ العيش ، مصدر مَجّ الشراب مِنْ فِيه ، أي رمى به وقَذَفه ، ويقال : انمجّتْ نقطة من القلم ، أي ترشَّشَتْ ، وشيخ ماجّ ، أي كبير يمجّ الريق ، ولا يستطيع حبسه لكبره . ويتطعَّمُونها ؛ أي يذوقونها . وبُرْهة ، أي مدة من الزمان فيها طول . ولفظت الشيء من فمي ، ألفظه لفظا : رميتُه ، وذلك


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
276

والوجه الثاني : أنّ أكثر المتكَلِّمين ذهبوا إلى أن للإنسان الحيّ الفعّال أجزاء أصلية في هذه البنية المشاهدة ؛ وهي أقلّ ما يمكن أن تأتلف منه البنية التي معها يصحّ كون الحيّ حيّا ، وجعلوا الخطاب متوجّها نحوها ، والتكليف واردا عليها ، وما عداها من الأجزاء ؛ فهي فاضلة ليست داخلة في حقيقة الإنسان ؛ وإذا صحّ ذلك جاز أن ينتزع اللّه تلك الأجزاء الأصلية من أبدان الأنبياء والأوصياء ، فيرفعها إليه بعد أن يخلق لها من الأجزاء الفاضلة عنها نظير ما كان لها في الدار الأُولى .
فإن قلت : فهل يجوز أن يُتأوّل كلامُه ، فيقال : لعلّه أراد بقاء الذِّكْر والصيت ؟
قلت : إنه لبعيدٌ ؛ لأنّ غيرَهم يَشْرَكُهم في ذلك ؛ ولأ نّه أخرج الكلام مخرَج المستغرب المستعظم له .
فإن قلت : فهل يمكن أن يقال : إن الضَمير يعود إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لأ نّه قد ذكره في قوله : « خاتم النبيين » فيكون التقدير : أ نّه يموت مَنْ مات منا والنبي صلى الله عليه و آله وسلم ليس بميت ، ويبلى مَنْ بَلي منا والنبي ليس ببال .
قلت : هذا أبعدُ من الأول ؛ لأ نّه لو أراد ذلك لقال : إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لا تُبليه الأرض ، وإنه الآن حيّ .
فإن قلت : فهل هذا الكلام منه أم قاله مرفوعا ؟ قلت : بل ذكَره مرفوعا ، ألا تراه قال : « خذوها عن خاتم النبيين » .
ثم نعود إلى التفسير فنقول : إنّه لما قال لهم ذلك علم أنه قال قولاً عجيبا ؛ وذكر أمرا غريبا ، وعلم أنهم ينكِرون ذلك ويعجبون منه ، فقال لهم : فلا تقولوا ما لا تعرفون ؛ أي لا تكذِّبوا أخباري ؛ ولا تكذِّبوا إخبار رسول اللّه لكم بهذا فتقولون ما لا تعلمون صِحَّته ، ثم قال : فإن أكثر الحق في الأُمور العجيبة التي تنكرُونها كإحياء الموتى في القيامة ، وكالصراط والميزان والنار والجنة وسائر أحوال الآخرة . ثم قال : « واعذروا مَنْ لا حجة لكم عليه وهو أنا » ، يقول : قد عَدَلْتُ فيكم ، وأحسنت السيرة وأقمتكم على المحجّة البيضاء ، حتى لم يبق لأحد منكم حُجَّةٌ يحتجّ بها عليّ ، ثم شرح ذلك ، فقال : « عملت فيكم بالثَّقَل الأكبر » ، يعني الكتاب و « خَلَّفت فيكم الأصغر » يعني ولديْه ؛ لأنهما بقية الثَّقَل الأصغر ؛ فجاز أن يطلق عليهما بعد ذهاب مَنْ ذهب منه أنهما الثقل الأصغر ؛ وإنما سمّى النبي صلى الله عليه و آله وسلم الكتاب والعِتْرة ، الثقليْن ؛ لأنّ الثَّقَل في اللغة متاع المسافر وَحَشمُه ؛ فكأنه صلى الله عليه و آله وسلم لمّا شارف الانتقال إلى جوار

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8779
صفحه از 712
پرینت  ارسال به