275
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

جعلَهم كأنّهم ألسِنَةُ صِدْقٍ لا يصدر عنها قول كاذب أصلاً ؛ بل هي كالمطبوعة على الصدق .
وقوله : « فأنزلوهُم منازل القرآن » تحته سرٌّ عظيم ؛ وذلك أ نّه أمر المكلَّفِين بأنْ يُجْروا العِتْرة في إجلالها وإعظامها والانقياد لها والطاعة لأوامرها مَجْرَى القرآن .
فإن قلت : فهذا القول منه يُشعِرُ بأنّ العِتْرة معصومة ، فما قول أصحابكم في ذلك؟
قلت : نصّ أبو محمد بن متَّويْه ؛ رحمه اللّه تعالى في كتاب « الكفاية » على أنّ عليا عليه السلام معصوم ، وإنْ لم يكُنْ واجبَ العصمة ، ولا العصمة شرط في الإمامة ؛ لكن أدلّة النصوص قد دلَّتْ على عِصْمَتِه ؛ والقطع على باطنه ومغيبه ، وأنّ ذلك أمرٌ اختصّ هو به دون غيره من الصحابة ؛ والفرق ظاهرٌ بين قولنا : « زيد معصوم ، وبين قولنا : « زيد واجب العصمة » ، لأ نّه إمام ؛ ومِنْ شرط الإمام أن يكون معصوما ، فالاعتبار الأول مذهبنا ، والاعتبار الثاني مذهب الإمامية . ثم قال : « ورِدوهم وِرْد الهِيم العطاش » ، أي كونوا ذوي حِرْصٍ وانكماش على أخذ العلم والدين منهم ، كحِرْص الهِيم الظماء على وُرود الماء . ثم قال : « أيُّها الناس خذوها عن خاتم النبيين » إلى قوله : « وليس ببالٍ » هذا الموضع يحتاج إلى تلطّف في الشرح ؛ لأنّ لقائلِ أنْ يقولَ : ظاهر هذا الكلام متناقض ، لأ نّه قال : « يموت مَنْ مات منا وليس بميت » ، وهذا كما تقول : يتحرّك المتحرّك وليس بمتحرّك ، وكذلك قوله : ويبلى مَنْ بلي منا ، وليس ببال » ، ألا ترى أ نّه سلْب وإيجاب لشيء واحد!
فنقول في الجواب : إنّ هذا يُمكن أن يحمَل على وجهين :
أحدُهما : أن يكونَ النبي صلى الله عليه و آله وسلم وعليٌّ ومَنْ يتلوهُما من أطايب العِترة أحياءً بأبدانهم التي كانت في الدنيا بأعيانها ؛ قَدْ رَفعهم اللّه تعالى إلى ملكوت سماواته ؛ وعلى هذا لو قدرنا أن محتفِرا احتفر تلك الأجداث الطاهرة عقب دَفْنهم لم يجد الأبدان في الأرض ؛ وقد روي في الخبر النبويّ صلى الله عليه و آله وسلم مثل ذلك ؛ وهو قوله : « إنّ الأرض لم تُسَلَّط عليّ ، وأنها لا تأكل لي لحما ولا تشرب لي دماً » نعم يبقى الإشكال في قوله : « ويبلى مَنْ بَلِي منا وليس ببالٍ » ؛ فأحوَج هذا إلى تقدير فاعل محذوف ؛ فيكون تقدير الكلام : يموت مَنْ مات حال موته وليس بميت فيما بعد ذلك من الأحوال والأوقات ، ويَبْلَى كفن مَنْ بَلِيَ منّا وليس هو ببال ؛ فحذف المضاف كقوله : « وَإلَى مَدْيَنَ » ۱ ، أي وإلى أهل مدين ؛ ولما كان الكَفَنُ كالجزء من الميت لاشتماله عليه عَبّر بأحدهما عن الآخر للمجاورة والاشتمال، كما عبَّروا عن المطَر بالسماء.

1.سورة الأعراف ۸۵ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
274

وقوله : « فالصورة صورة إنسان ... » وما بعده ، فمراده بالحيوان هاهنا الحيوان الأخرس كالحِمار والثور ، وليس يريد العموم ؛ لأنّ الإنسان داخل في الحيوان ، وهذا مثل قوله تعالى : « إنْ هُمْ إلاَّ كالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً » ۱ .
قوله : « وذلك مَيّت الأحياء » كلمة فصيحة ، وقد أخذها شاعر فقال :

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَراحَ بِمَيْتٍإنَّمَا الميْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
إلاّ أن أمير المؤمنين عليه السلام أراد لجهله ، والشاعر أراد لبؤسه . وتُؤفكُون : تقلبون وتصرَفُون . والأعلام : المعجزات هاهنا ؛ جمع عَلَم ، وأصله الجبل أو الراية والمنارة ، تنصَب في الفَلاة ليهتدى بها .
وقوله : « فأيْنَ يُتاه بكم ! » أي أين يذهب بكم في التيه ! ويقال : أرضٌ تَيْهاء يتحيَّر سالكها . وتَعمَهُون : تتحيّرون وتَضِلّون . وعِتْرَة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : أهلُه الأدْنَوْن ونسله ؛ وليس بصحيح قول مَنْ قال : إنّهم رهطُه وإن بعدوا ؛ وقد بَيّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عِتْرتَه مَنْ هي ، لما قال : « إنّي تارك فيكم الثَّقَلَيْن » ، فقال : « عِترتي أهل بيتي » ، وبيّن في مقام آخر مَن أهلُ بيته حيث طرح عليهم كساء . وقال حين نزلت : « إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ » ۲ : « اللهم هؤلاء أهلُ بيتي فأذهب الرجس عنهم » .
فإن قلت : فمَنْ هي العِتْرة التي عناها أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الكلام؟
قلت : نفسه وولداه ؛ والأصْلُ في الحقيقة نفسه ؛ لأنّ ولديه تابعان له ؛ ونسبتهما إليه مع وجوده كنسبة الكواكب المضيئة مع طلوع الشمس المشرقة ، وقد نبّه النبي صلى الله عليه و آله وسلم على ذلك بقوله : « وأبوكما خير منكما » .
وقوله : « وهم أزمّة الحقّ » : جمع زمام ؛ كأنه جعل الحقّ دائراً معهم حيثما داروا ، وذاهبا معهم حيثما ذهبوا ، كما أن الناقة طَوْع زمامها ، وقد نبَّه الرسول صلى الله عليه و آله وسلم على صِدْق هذه القضية بقوله : « وأدِر الحقّ معه حيث دار » .
وقوله : « وألسنة الصّدق » من الألفاظ الشريفة القرآنية ، قال اللّه تعالى : « وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ » ۳ ، لما كان لا يصدرُ عنهم حكم ولا قول إلاّ وهو موافق للحق والصواب ؛

1.سورة الفرقان ۴۴ .

2.سورة الأحزاب ۳۳ .

3.سورة الشعراء ۸۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8795
صفحه از 712
پرینت  ارسال به