جعلَهم كأنّهم ألسِنَةُ صِدْقٍ لا يصدر عنها قول كاذب أصلاً ؛ بل هي كالمطبوعة على الصدق .
وقوله : « فأنزلوهُم منازل القرآن » تحته سرٌّ عظيم ؛ وذلك أ نّه أمر المكلَّفِين بأنْ يُجْروا العِتْرة في إجلالها وإعظامها والانقياد لها والطاعة لأوامرها مَجْرَى القرآن .
فإن قلت : فهذا القول منه يُشعِرُ بأنّ العِتْرة معصومة ، فما قول أصحابكم في ذلك؟
قلت : نصّ أبو محمد بن متَّويْه ؛ رحمه اللّه تعالى في كتاب « الكفاية » على أنّ عليا عليه السلام معصوم ، وإنْ لم يكُنْ واجبَ العصمة ، ولا العصمة شرط في الإمامة ؛ لكن أدلّة النصوص قد دلَّتْ على عِصْمَتِه ؛ والقطع على باطنه ومغيبه ، وأنّ ذلك أمرٌ اختصّ هو به دون غيره من الصحابة ؛ والفرق ظاهرٌ بين قولنا : « زيد معصوم ، وبين قولنا : « زيد واجب العصمة » ، لأ نّه إمام ؛ ومِنْ شرط الإمام أن يكون معصوما ، فالاعتبار الأول مذهبنا ، والاعتبار الثاني مذهب الإمامية . ثم قال : « ورِدوهم وِرْد الهِيم العطاش » ، أي كونوا ذوي حِرْصٍ وانكماش على أخذ العلم والدين منهم ، كحِرْص الهِيم الظماء على وُرود الماء . ثم قال : « أيُّها الناس خذوها عن خاتم النبيين » إلى قوله : « وليس ببالٍ » هذا الموضع يحتاج إلى تلطّف في الشرح ؛ لأنّ لقائلِ أنْ يقولَ : ظاهر هذا الكلام متناقض ، لأ نّه قال : « يموت مَنْ مات منا وليس بميت » ، وهذا كما تقول : يتحرّك المتحرّك وليس بمتحرّك ، وكذلك قوله : ويبلى مَنْ بلي منا ، وليس ببال » ، ألا ترى أ نّه سلْب وإيجاب لشيء واحد!
فنقول في الجواب : إنّ هذا يُمكن أن يحمَل على وجهين :
أحدُهما : أن يكونَ النبي صلى الله عليه و آله وسلم وعليٌّ ومَنْ يتلوهُما من أطايب العِترة أحياءً بأبدانهم التي كانت في الدنيا بأعيانها ؛ قَدْ رَفعهم اللّه تعالى إلى ملكوت سماواته ؛ وعلى هذا لو قدرنا أن محتفِرا احتفر تلك الأجداث الطاهرة عقب دَفْنهم لم يجد الأبدان في الأرض ؛ وقد روي في الخبر النبويّ صلى الله عليه و آله وسلم مثل ذلك ؛ وهو قوله : « إنّ الأرض لم تُسَلَّط عليّ ، وأنها لا تأكل لي لحما ولا تشرب لي دماً » نعم يبقى الإشكال في قوله : « ويبلى مَنْ بَلِي منا وليس ببالٍ » ؛ فأحوَج هذا إلى تقدير فاعل محذوف ؛ فيكون تقدير الكلام : يموت مَنْ مات حال موته وليس بميت فيما بعد ذلك من الأحوال والأوقات ، ويَبْلَى كفن مَنْ بَلِيَ منّا وليس هو ببال ؛ فحذف المضاف كقوله : « وَإلَى مَدْيَنَ » ۱ ، أي وإلى أهل مدين ؛ ولما كان الكَفَنُ كالجزء من الميت لاشتماله عليه عَبّر بأحدهما عن الآخر للمجاورة والاشتمال، كما عبَّروا عن المطَر بالسماء.