273
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

الْهِيمِ الْعِطَاشِ.
أَيُّهَا النَّاسُ ، خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَلَيْسَ بِمَيِّتٍ ، وَيَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَلَيْسَ بِبَالٍ » فَلاَ تَقُولُوا بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقَّ فِيمَا تُنْكِرُونَ ، وَاعْذِرُوا مَنْ لاَ حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ ـ وَهُوَ أَنَا ـ ، أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الْأَكْبَرِ ! وَأَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الْأَصْغَرَ ! قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الاْءِيمَانُ ، وَوَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ ، وَأَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي ، وَفَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي ، وَأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الْأَخْلاَقِ مِنْ نَفْسِي . فَلاَ تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيمَا لاَ يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ ، وَلاَ تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ .

الشّرْحُ :

الجهائل : جمع جهالة ؛ كما قالوا : عَلاقة وعلائق . والأضاليل : الضّلال ، جمعٌ لا واحد له من لفظه .
وقوله : « وقد حمل الكتاب على آرائه » ، يعني قد فسَّر الكتاب وتأوّلَه على مُقتضى هواه وقد أوضح ذلك بقوله : « وعطف الحقَّ على أهوائه » .
وقوله : « يؤمِن الناس من العظائم » ، فيه تأكيد لمذهب أصحابنا في الوعيد ، وتضعيف لمذهب المرجِئة الذين يؤمنون الناس من عظائم الذنوب ، ويُمنُّونهم العفوَ ؛ مع الإصرار وترك التَّوْبة . وجاء في الخبر المرفوع المشهور : « الكيِّس مَنْ دانَ نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتْبَع نفسَه هواها ، وتمنَّى على اللّه » .
وقوله : « يقول أقف عند الشبهات » ؛ يعني أنّ هذا المدّعِيَ للعلم يقول لنفسه وللناس : أنا واقف عند أدْنَى شبهة تحرُّجا وتورُّعا ؛ كما قال صلى الله عليه و آله وسلم : « دَعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك » .
ثم قال : « وفي الشبهات وَقَع » ، أي بجهله ؛ لأنّ مَنْ لا يعلم الشبهة ما هي ، كيف يقفُ عندها ، ويتحرّج من الورْطة فيها ، وهو لا يأمن من كونها غير شبهة على الحقيقة!
وقوله : « اعتزل البِدَع ، وبينها اضطجع » ؛ إشارة إلى تضعيف مذاهب العامة والحشَوِيّة الذين رفضوا النَّظر العقليّ ، وقالوا : نعتزل البدع .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
272

جدّا ، وهو ينزّه الأفعال عن الرّياء ، وألاّ يمازج العبادة أمر لا يكون للّه سبحانه . وقوله : « فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه » ، معادن دينه : الذين يُقتبس الدين منهم ، كمعادن الذهب والفضة ، وهي الأرضون التي يلتقط ذلك منها ، وأوتاد أرضه : هم الذين لولاهم لمادَت الأرض وارتجّت بأهلها ، وهذا من باب الاستعارة الفصيحة ، وأهل هذا العلم يقولون : أوتاد الأرض جماعة من الصالحين ، ولهم في الأوتاد والأبدال والأقطاب كلامٌ مشهور في كتبهم .
وسادس عشرها : أن يكون قد ألزَم نفسه العدل ، والعدالة : مَلَكه تصدُر بها عن النفس الأفعال الفاضلة خلقا لا تخلّقا .
ثم إنه عليه السلام ذكر حال هذا العارف العادل فقال : « أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه » ، وذلك لأنّ من يأمر ولا يأتمر ، وينهى ولا ينتهي ، لا تؤثر عظته ، ولا ينفع إرشاده . ثم شرح ذلك فقال : « يصف الحق ويعمل به » . ثم قال : « لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها ، ولا مَظِنّةً إلاّ قصدها » ؛ وذلك لأنّ الخير لذته وسروره وراحته ، فمتى وجد إليه طريقا سلكها ، ثم قال : « قد أمكن الكتاب ـ يعني القرآن ـ مِن زمامه » ، أي قد أطاع الأوامر الإلهية ، فالقرآن قائده وإمامُه ، يحلّ حيث حلّ ، وينزل حيث نزل .

الأصْلُ :

۰.وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِما وَلَيْسَ بِهِ ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ ، وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّلٍ ، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكا مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ ، وَقَوْلِ زُورٍ ؛ قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ ؛ وَعَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ ، يُؤَمِّنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ ، وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ ، يَقُولُ : أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ ، وَفِيهَا وَقَعَ ؛ وَيَقُولُ : أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ ، وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ ؛ فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ ، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ ، لاَ يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ ، وَلاَ بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ . وَذلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ!
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ؟ وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ! وَالْأَعْلاَمُ قَائِمَةٌ ، وَالآيَاتُ وَاضِحَةٌ ، وَالْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ ! وَكَيْفَ تَعْمَهُونَ وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ ! وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ ، وَأَعْلاَمُ الدِّينِ ، وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ ! فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8801
صفحه از 712
پرینت  ارسال به