269
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا ، وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا ، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ للّهِ ـ سُبْحَانَهُ ـ فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ ، مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ ، وَتَصْييرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ .
مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ ، كَشَّافُ عَشَوَاتٍ ، مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ ، دَفَّاعُ مُعْضَلاَتٍ ، دَلِيلُ فَلَوَاتٍ ، يَقُولُ فَيُفْهِمُ ، وَيَسْكُتُ فَيَسْلَمُ . قَدْ أَخْلَصَ للّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ ، فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ ، وَأَوْتَادِ أَرْضِهِ . قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ ، فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ . يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ ، لاَ يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا ، وَلاَ مَظِنَّةً إِلاَّ قَصَدَهَا ، قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ ، فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ ، وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ .

الشّرْحُ :

استشعر الحزن : جعله كالشعار ، وهو ما يلِي الجسد من الثياب . وتجلبَب الخوف : جعله جلبابا ، أي ثوبا . زهر مصباح الهدى : أضاء . وأعدّ القِرَى ليومه ، أي أعدّ ما قدمه من الطاعات قرىً لضيف الموتِ النازل به . والفُرات : العذب .
وقوله : « فشرب نَهلاً » ؛ يجوز أن يكون أراد بقوله : « نَهَلاً » المصدرَ ، من نَهَلَ يَنْهَلُ نَهَلاً ، أي شرب حتى رَوِيَ ، ويجوز أن يريد بالنَّهَل الشرب الأول خاصة ، ويريد أنه اكتفى بما شربه أولاً ، فلم يحتج إلى العَلل . وطريق جَدَدٌ : لا عثار فيه لقوة أرضه . وقطع غِماره ؛ يقال : بحر غَمْر ، أي كثير الماء ، وبحار غِمار . واستمسك من العرى بأوثقها ؛ أي من العقود الوثيقة ، قال تعالى : « فَقَدِ استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى » ۱ . ونصب نفسه للّه ، أي أقامها . كشّاف عَشَوات : جمع عُشْوة وعَشْوة وعِشْوة ، بالحرَكات الثلاث ، وهي الأمر الملتبس ؛ يقال : أوطأني عَشْوةً . والمعضِلات : جمع معضلة وهي الشدائد والأُمور التي لا يهتدى لوجهها . دليل فلوات ، أي يُهتدى به كما يَهتدي الركب في الفلاة بدليلهم . أمّها : قصدها . ومظنّة الشيء : حيث يُظنّ وجوده . والثَّقَل . متاع المسافر وحشَمه . واعلم أنّ هذا الكلام منه أخذ أصحاب

1.سورة البقرة ۲۵۶ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
268

المرفوع . وشَفا منجاة ؛ أي حَرْف نجاة وخَلاَص ؛ وشفا الشيء حرفه ، قال تعالى : « وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ » ۱ ؛ وأشفى على الشيء وأشرف عليه بمعنىً ؛ وأكثر ما يقال ذلك في المكروه ، يقال : أشْفى المريض على الموت ، وقد استعمله هاهنا في غير المكروه . والشّرَف : المكان العالي ، بفتح الشين ، وأشرفْت عليه ، أي اطّلعت من فوق . والمَهْواة : موضع السقوط . والمهانة : الحقارة .
ثم نهى عن الحسَد وقال : « إنه يأكلُ الإيمان كما تأكل النار الحطب » ، وقد ورد هذا الكلام في الأخبار المرفوعة ؛ وقد تقدّم منا كلام في الحسد ، وذكرنا كثيرا مما جاء فيه . ثم نهى عن المباغضة وقال : « إنها الحالقة » ، أي المستأصِلة التي تأتي على القوم ، كالحلْق للشعر . ثم نهى عن الأمل وطُوله وقال : « إنه يورث العقل سهوا ، وينسي الذكر » . ثم أمر بإكذاب الأمل ، ونهى عن الاعتماد عليه ، والسكون إليه ، فإنه من باب الغرور .

۸۶

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلامعِبَادَ اللّهِ ، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللّهِ إلَيْهِ عَبْدا أَعَانَهُ اللّهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ ، وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ ؛ فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ ، وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ . نَظَرَ فَأَبْصَرَ ، وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ ، وَارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ ، فَشَرِبَ نَهَلاً ، وَسَلَكَ سَبِيلاً جَدَدا .
قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ ، وَتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ ، إِلاَّ هَمّا وَاحِدَا انْفَرَدَ بِهِ ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى ، وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى ، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى ، وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى . قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ ، وَقَطَعَ غِمَارَهُ ،

1.سورة آل عمران ۱۰۳ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8320
صفحه از 712
پرینت  ارسال به