267
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

والْعَشِيِّ » ۱ ؛ يقال : « صبر فلان نفسه على كذا » ، أي حبَسها عليه . يتعدّى فينصب . والضمير في « فإنها قليل » عائد إلى الأيام التي أمرهم باستدراكها . يقول : إن هذه الأيام التي قد بقيَت من أعماركم قليلة ، بالنسبة والإضافة إلى الأيام التي تغفلون فيها عن الموعظة . وقوله : « فإنها قليل » فأخبر عن المؤنث بصيغة المذكر ، إنما معناه فإنها شيء قليلٌ بحذف الموصوف ؛ كقوله : « وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا » ۲ أي قَبِيلاً رفيقا .
ثم قال : « ولا تُرَخّصوا » ، نَهَى عن الأخذ برُخَص المذاهب ؛ وذلك لأ نّه لا يجوز للواحد من العامة أن يقلّد كلاًّ من أئمة الاجتهاد فيما خفَّ وسَهُل من الأحكام الشرعية . أو لا تُساهلوا أنفسكم في ترك تشديد المعصية ، ولا تسامحوها وترخّصوا إليها في ارتكاب الصغائر والمحقّرات من الذنوب ، فتهجُم بكم على الكبائر ؛ لأنّ من مَرَن على أمرٍ تدرّج من صغيره إلى كبيره . والمداهنة : النفاق والمصانعة ، والإدهان مثله ؛ قال تعالى : « وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ » ۳ .
قوله : « إنّ أنصحَ الناس لنفسه أطوعُهم لربه » ؛ لأ نّه قد صانها عن العقاب ، وأوجب لها الثواب ؛ وذلك غاية ما يمكن من نصيحتها ونفعها . قوله : « وإن أغشّ الناس لنفسه أعصاهم لربه » ؛ لأ نّه ألقاها في الهلاك الدائم ، وذلك أقصى ما يمكن من غِشّها والإضرار بها.
ثم قال : « والمغبونُ من غبَن نفسه » ، أي أحقّ الناس أن يسمَّى مغبونا مَنْ غَبَن نفسه ، يقال : غبنتُه في البيع غبْناً ، بالتسكين ، أي خدعتُه ، وقد غُبِن فهو مغبون ، وغبِن الرجل رأيه بالكسر غبَناً بالتحريك فهو غَبين ، أي ضعيف الرأي ، وفيه غَبَانة . ولفظ الغَبْن يدلّ على أنه من باب غَبْن البيع والشراء ؛ لأ نّه قال : « والمغبون » ولم يقل : « والغبين » . والمغبوط : الذييُتمنّى مثلُ حاله ، والذي يتمنى زوالَ حاله وانتقالها هو الحاسد ، والحسد مذموم ، والغبطة غير مذمومة . قوله : «والسعيد من وُعظ بغيره » مثَل من الأمثال النبوية .
وقوله عليه السلام : « مَنْسَاة للإيمان » ، أي داعية إلى نسيان الإيمان وإهماله ، والإيمان الاعتقاد والعمل . ومحضرة للشيطان : موضع حضوره ، كقولك : مَسْبَعة ، أي موضع السباع . ومَفْعَاة ، أي موضع الأفاعي . ثم نهى عن الكذب وقال : « إنه مجانب للإيمان » وكذا ورد في الخبر

1.سورة الكهف ۲۸ .

2.سورة النساء ۶۹ .

3.سورة القلم ۹ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
266

كالسّواري جمع سارِية ، والغوادي جمع غادية ، يعني الآيات الناهية لهم عن المعاصي .
وقوله : « وألقى إليكم المعذِرة » كلام فصيح ، وهو من قوله تعالى : « ألْقَى إلَيْكُمُ السَّلاَم » ۱ . وقدّم إليكم بالوعيد ، وأنذركم بين يدي عذاب شديد ، أي أمامه وقبله ، مأخوذ أيضا من القرآن . ومعنى قوله : « بين يدي عذاب شديد » ، أي أمامه وقبله ؛ لأنّ ما بين يديك متقدم لك .

الأصْلُ :

۰.فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ ، وَاصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ ، فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثيرِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ ، وَالتَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ ؛ وَلاَ تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ ، فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الْظَّلَمَةِ ، وَلاَ تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الاْءِدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ .
عِبَادَ اللّهِ ، إِنَّ أَنْصَحِ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ ؛ وَإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ ؛ وَالْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ ، وَالْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ ، والشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَغُرُورِهِ .
وَاعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ ، وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلاْءِيمَانِ ، وَمَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ . جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلإِيمَانِ . الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَكَرَامَة ، وَالْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَمَهَانَة . وَلاَ تَحَاسَدُوا ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الاْءِيمانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ ، وَلاَ تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ ؛ وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ ، وَيُنْسِي الذِّكْرَ . فَأَكْذِبُوا الْأَمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ ، وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ .

الشّرْحُ :

قوله : « فاستدركوا بقيّة أيامكم » ؛ يقال : « استدركت ما فات وتداركت ما فات » ، بمعنى « واصبروا لها أنفسكم » ، مأخوذ من قوله تعالى : « وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ

1.سورة النساء ۹۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8558
صفحه از 712
پرینت  ارسال به