209
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

وعلى كلا التفسيرين يُسلَب عنها مفهوم القلة . هذا إذا فسرنا كلامه على التفسير الحقيقيّ ، وإن فسرناه على قاعدة البلاغة وصناعة الخطابة ، كان ظاهرا ؛ لأنّ الناس يستحقرون القليل لقلّته ، ويستعظمون الكثير لكثرته .
وأمّا قوله : « وكلُّ عزيز غيره ذليل » ، فهو حقّ ؛ لأنّ غيره من الملوك وإن كان عزيزا فهو ذليل في قبضة القضاء والقدر ، وهذا هو تفسير قوله : « وكلّ قوي غيره ضعيف ، وكل مالك غيره مملوك » .
وأمّا قوله : « وكلّ عالم غيره متعلم » ، فهو حقّ ؛ لأ نّه سبحانه مفيضُ العلوم على النفوس ، فهو المعلّم الأوّل ، جلّت قدرته .
وأمّا قوله : « وكلُّ قادرٍ غيره يقدر ويعجز » ، فهو حقّ ؛ لأ نّه تعالى قادر لذاته ، ويستحيل عليه العجز ، وغيره قادر لأمر خارج عن ذاته ، إمّا لقدرة ، كما قاله قوم ، أو لبنية وتركيب كما قاله قوم آخرون ، والعجز على مَنْ عداه غير ممتنع ، وعليه مستحيل .
وأمّا قوله عليه السلام : « وكلُّ سميع غيره يَصَمّ عن لطيف الأصوات ، ويصمّه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها » ، فحقّ ؛ لأنّ كلَّ ذي سمْع من الأجسام يضعُف سمعه عن إدراك خَفِيِّ الأصوات ، ويتأثر من شديدها وقويها ؛ لأ نّه يسمع بآلة جسمانية ، والآلة الجسمانية ذات قوة متناهية واقفة عند حَدّ محدود ، والباري تعالى بخلاف ذلك .
والقول في شرح قوله : « وكلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان ، ولطيف الأجسام » ، كالقول فيما تقدّم في إدراك السّمع .
وأمّا قوله : « وكلُّ ظاهرٍ غيره غير باطن ، وكلّ باطن غيره غير ظاهر » ، فحقّ ؛ لأنّ كلّ ظاهر غيره على التفسير الأول فليس بباطن كالشمس والقمر وغيرهما من الألوان الظاهرة ، فإنّها ليست إنّما تدرَك بالقوة العقليّة ؛ بل بالحواسّ الظاهرة ، وأمّا هو سبحانه فإنّه أظهرُ وجودا من الشمس ، لكنّ ذلك الظهور لم يمكن إدراكه بالقوى الحاسة الظاهرة ، بل بأمْرٍ آخر ، إمّا خفيٌّ في باطن هذا الجسد ، أو مفارق ليس في الجسد ولا في جهة أُخرى غير جهة الجسد .
وأما على التفسير الثاني ؛ فلأنّ كلّ مَلِكٍ ظاهر على رعيّته أو على خصومه وقاهر لهم ، ليس بعالم ببواطنهم ، وليس مطّلعا على سرائرهم ، والبارئ تعالى بخلاف ذلك ؛ وإذا فهمتَ شرح القضيّة الأُولى ، فهمت شرح الثانية ، وهي قوله : « وكلّ باطن غيره غير ظاهر » .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
208

الشّرْحُ :

يَصَمّ ؛ بفتح الصاد ، لأنّ الماضي « صَمِمْت » يا زيد ، والصَّمم : فساد حاسّة السمع ، ويصِمه بكسرها ؛ يحدث الصَّمَم عنده ، وأصْمَمت زيدا . والنِّد : المِثْل والنظير . والمثاور : المواثب . والشريك المكاثر : المفتخر بالكثرة . والضدّ المنافر : المحاكم في الحسب ، نافرت زيدا فَنفَرْته ، أي غلبته . ومربوبون : مملوكون . وداخرون : ذليلون خاضعون . ولم يَنْأ : لم يبعُد . ولم يؤده : لم يتعبْه . وذَرَأ : خَلَق ، وَوَلَجت عليه الشبهة ، بفتح اللام ، أي دخلت . والمرهوب : المخوف .
فأمّا قوله « الذي لم يسبق له حال حالاً ، فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخراً » ، فيمكن تفسيرُه على وجهين :
أحدُهما : أنّ معنى كونه أولاً أنه لم يزَلْ موجودا ، ولا شيء من الأشياء بموجود أصلاً ؛ ومعنى كونه آخرا أنه باقٍ لا يزال ، وكلّ شيء من الأشياء يُعدَم عدَما محْضا حسب عدمه فيما مضى ، وذاته سبحانه ذاتٌ يجب لها اجتماعُ استحقاق هذين الاعتبارين معا في كلّ حال ، فلا حال قطّ إلاّ ويصدق على ذاته أنه يجب كونها مستحقّة للأوليّة والآخرية بالاعتبار المذكور استحقاقا ذاتيا ضروريا .
الوجه الثاني : أن يريدَ بهذا الكلام أ نّه تعالى لا يجوز أن يكون موردا للصفات المتعاقبة ؛ على ما يذهب إليه قوم من أهل التوحيد ؛ قالوا : لأ نّه واجبٌ لذاته ، والواجب لذاته واجب من جميعِ جهاته .
وأمّا قوله : « أو يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا » ، فإنّ للباطن والظاهر تفسيرا على وجهين :
أحدهما : أنه ظاهر بمعنى أنّ أدلّة وجوده وأعلام ثبوته وإلهيته جليّة واضحة ، ومعنى كونه باطنا أنه غير مدرَك بالحواسّ الظاهرة ، بل بقوة أُخرى باطنة ؛ وهي القوة العقلية.
وثانيهما : أنّا نعني بالظاهر الغالب ؛ يقال : ظَهر فلانٌ على بني فلان ، أي غلَبَهم ، ومعنى الباطن العالم ، يقال : بطنَت سرّ فلان ، أي علِمتُه ، والقول في نفيه عنه سبحانه أن يكون ظاهرا قبل كونه باطنا ، كالقول فيما تقدّم من نفيه عنه سبحانه كونه أوّلاً قبل كونه آخراً .
وأمّا قوله : « كلّ مسمَّى بالوحدة غيره قليل » ، فلأنّ الواحد أقلّ العدد ، واحدا يُبايِن ذلك ؛ لأنّ معنى كونه واحدا إمّا نفي الثاني في الإلهية ، أو كونه يستحيل عليها الانقسام ،

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8643
صفحه از 712
پرینت  ارسال به