وعلى كلا التفسيرين يُسلَب عنها مفهوم القلة . هذا إذا فسرنا كلامه على التفسير الحقيقيّ ، وإن فسرناه على قاعدة البلاغة وصناعة الخطابة ، كان ظاهرا ؛ لأنّ الناس يستحقرون القليل لقلّته ، ويستعظمون الكثير لكثرته .
وأمّا قوله : « وكلُّ عزيز غيره ذليل » ، فهو حقّ ؛ لأنّ غيره من الملوك وإن كان عزيزا فهو ذليل في قبضة القضاء والقدر ، وهذا هو تفسير قوله : « وكلّ قوي غيره ضعيف ، وكل مالك غيره مملوك » .
وأمّا قوله : « وكلّ عالم غيره متعلم » ، فهو حقّ ؛ لأ نّه سبحانه مفيضُ العلوم على النفوس ، فهو المعلّم الأوّل ، جلّت قدرته .
وأمّا قوله : « وكلُّ قادرٍ غيره يقدر ويعجز » ، فهو حقّ ؛ لأ نّه تعالى قادر لذاته ، ويستحيل عليه العجز ، وغيره قادر لأمر خارج عن ذاته ، إمّا لقدرة ، كما قاله قوم ، أو لبنية وتركيب كما قاله قوم آخرون ، والعجز على مَنْ عداه غير ممتنع ، وعليه مستحيل .
وأمّا قوله عليه السلام : « وكلُّ سميع غيره يَصَمّ عن لطيف الأصوات ، ويصمّه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها » ، فحقّ ؛ لأنّ كلَّ ذي سمْع من الأجسام يضعُف سمعه عن إدراك خَفِيِّ الأصوات ، ويتأثر من شديدها وقويها ؛ لأ نّه يسمع بآلة جسمانية ، والآلة الجسمانية ذات قوة متناهية واقفة عند حَدّ محدود ، والباري تعالى بخلاف ذلك .
والقول في شرح قوله : « وكلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان ، ولطيف الأجسام » ، كالقول فيما تقدّم في إدراك السّمع .
وأمّا قوله : « وكلُّ ظاهرٍ غيره غير باطن ، وكلّ باطن غيره غير ظاهر » ، فحقّ ؛ لأنّ كلّ ظاهر غيره على التفسير الأول فليس بباطن كالشمس والقمر وغيرهما من الألوان الظاهرة ، فإنّها ليست إنّما تدرَك بالقوة العقليّة ؛ بل بالحواسّ الظاهرة ، وأمّا هو سبحانه فإنّه أظهرُ وجودا من الشمس ، لكنّ ذلك الظهور لم يمكن إدراكه بالقوى الحاسة الظاهرة ، بل بأمْرٍ آخر ، إمّا خفيٌّ في باطن هذا الجسد ، أو مفارق ليس في الجسد ولا في جهة أُخرى غير جهة الجسد .
وأما على التفسير الثاني ؛ فلأنّ كلّ مَلِكٍ ظاهر على رعيّته أو على خصومه وقاهر لهم ، ليس بعالم ببواطنهم ، وليس مطّلعا على سرائرهم ، والبارئ تعالى بخلاف ذلك ؛ وإذا فهمتَ شرح القضيّة الأُولى ، فهمت شرح الثانية ، وهي قوله : « وكلّ باطن غيره غير ظاهر » .