205
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

۶۳

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلام :فَاتَّقُوا اللّهَ عِبَادَ اللّهِ ، وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ ، وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ ، وَتَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ ، وَاسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ ، وَكُونُوا قَوْما صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا ، وَعَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا ؛ فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثا ، وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدىً ، وَمَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلاَّ الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ .
وَإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ ، وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ ، لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ . وَإِنَّ غَائِبا يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ : اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ . وَإِنَّ قَادِما يَقْدُمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ .
فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا ، مِنَ الدُّنْيَا ، مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَدا . فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ ، نَصَحَ نَفْسَهُ ، وَقَدَّمَ تَوْبَتَهُ ، وَغَلَبَ شَهْوَتَهُ ، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ ، وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ ، وَالشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ ، يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا ، وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا ، إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا .
فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً ، وَأَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ ! نَسْأَلُ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ ، وَلاَ تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ ، وَلاَ تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَلاَ كَآبَةٌ .

الشّرْحُ :

بادروا آجالكم بأعمالكم ، أي سابقوها وعاجِلوها . البِدار : العجلة ، وابتاعوا الآخرة الباقيةَ بالدنيا الفانية الزائلة .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
204

المستَحقّ ، أو بتوبةٍ كاملة الشروط . وكلا الأمرين لا يصحُّ من المكلّفِين إيقاعهُ إلاّ في الدنيا ؛ فإنّ الآخرة ليست دارَ تكليف ، ليصحّ من الإنسان فيها عمل الطاعة والتوبة عن المعصية السالفة ؛ فقد ثبت إذا أن الدنيا دارٌ لا يسلم مِنْها إلاّ فيها .
إن قيل : بَيّنُوا أن الآخرةَ ليست بدار تكليف .
قيل : قد بَيّن الشيوخُ ذلك بوجهين :
أحدُهما : الإجماعُ على المنع مِنْ تجويز استحقاق ثواب أو عقاب في الآخرة .
والثاني : أن الثوابَ يجب أن يكون خالصا من المشاقّ ؛ والتكليف يستلزم المشقّة ؛ لأنها شرطٌ في صحته ؛ فبطل أن يجوز استحقاق ثواب في الآخرة للمكلّفين المُثَابين في الآخرة .
فأمّا قوله عليه السلام : « ولا يُنْجَى بشيء كَانَ لها » فمعناه أنّ أفعال المكلّف التي يفعلها لأغراضه الدنيويّة ليست طريقا إلى النجاة في الآخرة ، كمن ينفق ماله رئاء الناس ؛ وليست طرقُ النجاة إلاّ بأفعال البرّ التي يقصد فيها وجه اللّه تعالى لا غير ، وقد أوضح عليه السلام ذلك بقوله : « فما أخذُوه منها لها أخرجوا منه ، وحوسبوا عليه ، وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه وأقاموا فيه » .
فمثال الأول من يكتسب الأموال ويدّخرها لملاذّه ، ومثال الثاني من يكسبها لينفقها في سبيل الخيرات والمعروف .
ثم قال عليه السلام : « وإنّها عند ذوِي العقول كفيء الظلّ ... » إلى آخر الفصل ؛ وإنما قال : « كفيء الظلّ » ؛ لأنّ العرب تضيف الشيءَ إلى نفسه .
ويمكن أن يقال : الظلّ أعمّ من الفيء ؛ لأنّ الفيء لا يكون إلاّ بعد الزوال ، وكلّ فيء ظلٌّ ، وليس كلّ ظلٍّ فيئا ، فلما كان فيهما تغايرٌ معنويٌّ بهذا الاعتبار صحّت الإضافة . والسابغ : التامّ . وقَلَص ، أي انقبض .
وقوله عليه السلام : « بينا تراه » ، أصل « بينا » « بين » ، فأُشبعت الفتحة ، فصارت « بينا » على وزن « فَعْلى » ، ثم تقول « بينما » فتزيد « ما » ، والمعنى واحد ، تقول بينا نحن نرقبه أتانا ، أي بين أوقاتِ رقْبتنا إياه أتانا .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8250
صفحه از 712
پرینت  ارسال به