197
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

والجواب : أمّا الذي يقوله أصحابنا في ذلك فإنه لا فرق عندهم بين سبّه والتبرّؤ منه ، في أنّهما حرام وفسق وكبيرة .
فأمّا الإمامية فتروي عنه عليه السلام أنه قال : « إذا عُرِضتم على البراءة منّا فمدّوا الأعناق ».
ويقولون : إنه لا يجوز التبرّؤ منه ؛ وإن كان الحالف صادقا ، وإنّ عليه الكفارة .
ويقولون : إنّ حكم البراءة من اللّه تعالى ومن الرسول صلى الله عليه و آله ومنه عليه السلام ومن أحد الأئمة عليهم السلام ، حكم واحد .
ويقولون : إنّ الإكراه على السبّ يُبيح إظهاره ؛ ولا يجوز الاستسلام للقتل معه ، وأمّا الإكراه على البراءة ؛ فإنه يجوز معه الاستسلام للقتل ويجوز أن يظهر التّبرّؤ ، والأوْلى أن يستسلم للقتل .
المسألة الخامسة : أن يقال : كيف عَلّل نهيَه لهم على البراءة منه عليه السلام ، بقوله : « فإني ولدْت على الفطرة » ، فإن هذا التعليل لا يختص به عليه السلام ؛ لأنّ كلّ أحدٍ يولَد على الفطرة .
والجواب : أنه عليه السلام عَلّل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع أُمور وعلل ؛ وهي كونه ولد على الفطرة ، وكونه سبق إلى الإيمان والهجرة ، ولم يعلل بآحاد هذا المجموع ، ومراده هاهنا بالولادة على الفطرة أنه لم يولَدْ في الجاهلية ؛ لأ نّه ولد عليه السلام لثلاثين عاما مضت من عام الفيل ؛ والنبيّ صلى الله عليه و آله أرسِل لأربعين سنة مضت من عام الفيل ؛ وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه و آله مكَث قبل الرسالة سنين عشرا يسمع الصوت ويرى الضوء ، ولا يخاطبه أحد ؛ وكان ذلك إرهاصا لرسالته عليه السلام فحُكْم تلك السنين العَشْر حكم أيام رسالته صلى الله عليه و آله ؛ فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولّي لتربيته مولود في أيام كأيام النبوّة ، وليس بمولود في جاهلية محضة ، ففارقت حالُه حال مَنْ يدعى له من الصحابة مماثلته في الفضل . وقد روي أنّ السَّنَة التي ولد فيها عليٌّ عليه السلام هي السنة التي بُدئ فيها برسالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فأُسمِع الهُتاف من الأحجار والأشجار ، وكُشف عن بصره ، فشاهد أنوارا وأشخاصا ؛ ولم يخاطَب فيها بشيء .
وفي المسألة تفسير آخر ؛ وهو أن يعنى بقوله عليه السلام : « فإني ولدتُ على الفطرة » ، أي على الفِطْرة التي لم تتغيّر ولم تَحُلْ . ويمكن أن يفسر بأنه عليه السلام أراد بالفِطْرة العِصْمة ؛ وأ نّه منذ ولد لم يواقع قبيحا ؛ ولا كانَ كافراً طَرْفَة عين قطّ ، ولا مخطئا ولا غالطاً في شيء من الأشياء المتعلّقة بالدين . وهذا تفسير الإمامية .
المسألة السادسة : أن يقال : كيف قال : « وسبقتُ إلى الإيمان » ، وقد قال قوم من الناس : إنّ أبا بكر سَبَقه ، وقال قوم : إن زيد بن حارثة سبَقه؟


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
196

وفي هذا الفصل مسائل :
الأُولى : في تفسير قوله عليه السلام : « فاقتلوه ولن تقتلوه » فنقول : إنه لا تنافيَ بين الأمر بالشيء والإخبار عن أنه لا يقع ، كما أخبر الحكيم سبحانه عَنْ أنّ أبا لَهب لا يؤمن وأمرَه بالإيمان ، وكما قال تعالى : « فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ » ۱ ، ثم قال : « وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدا » ۲ ،وأكثر التكليفات على هذا المِنْهاج .
المسألة الثانية : في قوله عليه السلام : « يأمركم بسبِّي والبراءة مني » ، فنقول : إن معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسبّ عليّ عليه السلام والبراءة منه . وخطب بذلك على منابر الإسلام ، وصار ذلك سنة في أيام بني أُميّة إلى أنْ قام عمر بن عبد العزيز فأزاله .
المسألة الثالثة : في معنى قوله عليه السلام : « فسبّوني ، فإنه لي زكاة ، ولكم نجاة » ، فنقول : إنه أباح لهم سبَّه عند الإكراه ؛ لأنّ اللّه تعالى قد أباح عند الإكراه التلفّظ بكلمة الكفر ؛ فقال : « إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ » ، والتلفّظ بكلمة الكفر أعظم من التلفظ بسبّ الإمام .
فأمّا قوله : « فإنه لي زكاة ولكم نجاة » ؛ فمعناه أنكم تنجون من القتل إذا أظهرتم ذلك ، ومعنى الزكاة يحتمل أمرين :
أحدهما : ما ورد في الأخبار النبويّة أن سبّ المؤمن زكاة له وزيادة في حسناته .
والثاني : أن يريد به أن سبَّهم لي لا ينقص في الدنيا مِنْ قدري ، بل أزيد به شَرَفا وعُلُوَّ قدر ، وشياع ذكر ؛ وهكذا كان ، فإن اللّه تعالى جعل الأسباب التي حاول أعداؤه بها الغضّ منه عللاً لانتشار صيته في مشارق الأرض ومغاربها .
فإن قلت : أيّ مناسبة بين لفظ « الزكاة » وانتشار الصيت والسّمع؟
قلت : لأنّ الزكاة هي النماء والزيادة ؛ ومنه سميت الصدقة المخصوصة زكاة ؛ لأنها تنمي المال المزكّى ، وانتشار الصيت نماء وزيادة .
المسألة الرابعة : أن يقال : كيف قال عليه السلام : « فأمّا السبُّ فسُبُّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تبرءوا مني » ؟ وأيّ فرق بين السبّ والبراءة ؟ وكيف أجاز لهم السبّ ومنَعهم عن التبرّؤ ، والسبّ أفحش من التبرُّؤ!

1.سورة البقرة ۹۴ .

2.سورة الجمعة ۷ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8710
صفحه از 712
پرینت  ارسال به