وقوله عليه السلام : « فلا استعلاؤه باعده » ، أي ليس علوّه ولا قربه كما نعقله من العلوّ والقرب المكانيّين ، بل هو علوّ وقرب خارج من ذلك ، فليس علوّه يقتضي بعدَه بالمكان عن الأجسام ، ولا قربَه يقتضي مساواته إياها في الحاجة إلى المكان والجهة .
والباء في « به » متعلقة بـ « ساواهم » ، معناه : ولا قربُه ساواهم به في الحاجة إلى المكان ؛ أي لم يقتض قربه مماثلته ومساواته إياهم في ذلك .
فصول في العلم الإلهي
قال ابن أبي الحديد : وهذا الفصل يشتمل على عدة مباحث من العلم الإلهي ۱ :
الفصل الأوّل
كونه تعالى عالما بالأُمور الخفيّة
فاعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام إنما قال : « بَطَن خفِيّات الأُمور » وهذا القدر من الكلام يقتضى كونه تعالى عالماً ، يعلَم الأمورَ الخفيّة الباطنة ؛ وهذا منقسم قسمين :
أحدهما : أن يعلم الأُمور الخفية الحاضرة . والثاني : أن يعلم الأُمور الخفية المستقبلة .
والكلام من حيث إطلاقه يحتمل الأمرين ، فنحمله عليهما معا . فقد خالف في كلّ واحدة من المسألتين قوم ؛ فمِنَ الناس مَنْ نَفَى كونه عالما بالمستقبَلات ، ومِنَ الناس مَنْ نفَى كونَه عالماً بالأمور الحاضره ؛ سواء كانت خفيّة أو ظاهرة ؛ وهذا يقتضينا أن نشرحَ أقوال العقلاء في هذه المسائل ، فنقول : إنَّ الناس فيها عَلَى أقوال :
القول الأول : قولُ جمهور المتكلّمين ، وهو أنّ البارئ سبحانه يعلم كلّ معلوم : الماضي الحاضر والمستقبل ؛ ظاهرها وباطنها ، ومحسوسها وغير محسوسها ؛ فهو تعالى العالم بما كان وما هو حاضر ، وما سيكون وما لم يكنْ ، إن لو كان كيف كان يكون ، كقوله تعالى : « وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نهُوا عنهُ » ۲ ، فهذا علم بأمرٍ مقدر على تقدير وقوع أصله الذي قد علم