117
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

قوله : « لا يُرْعِيَنّ » أي لا يبقينّ ، أرعيتُ عليه ، أي أبقيت ؛ يقول : مَنْ أبقى على الناس فإنما أبقى على نفسه . والهوادة : الرفق والصلح ، وأصله اللينُ ، والتهويد : المشي رويدا . وآزرتُ زيداً : أعنتَه . والتّرة : الوتْر . والرِّبقة : الحبل يُجعل في عنق الشاة . وَردِي : هلك ، من الرَّدَى ، كقولك : عَمِيَ من العَمَى ، وشجِيَ من الشَّجَى . وقولُه : « شُغِلَ مَن الجنة والنار أمامه » ؛ يريدُ به أنّ مَنْ كانت هاتان الداران أمامه لَفِي شُغل عن أُمور الدنيا إن كان رشيدا .
وقوله : « ساع مجتهد » إلى قوله : « لا سادس » كلام تقديره : المكلَّفون على خمسة أقسام : ساع مجتهد ، وطالب راج ، ومقصّر هالك . ثم قال : ثلاثة ، أي فهؤلاء ثلاثة أقسام ؛ وهذا ينظر إلى قوله سبحانه : « ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابِقٌ بالخَيْراتِ بإذْنِ اللّهِ » ۱ ، ثم ذكر القسمين : الرابع والخامس ، فقال : هما مَلَك طار بجناحيه ، ونبيّ أخذ اللّه بيده ؛ يريد عِصْمَة هذين النوعين من القبيح . ثم قال : « لا سادس » ، أي لم يبق في المكلّفين قسم سادس . وهذا يقتضي أن العصمة ليست إلاّ للأنبياء والملائكة ، ولو كان الإمام يجب أن يكون معصوما لكان قسما سادسا ۲ .
وقوله : « هلك مَنِ ادَّعى ، وَرَدِيَ مَنِ اقتَحَم » ، يريد هلَك منِ ادّعى وكذب ، لابدّ من تقدير ذلك ؛ لأنّ الدعوى تعمُّ الصِّدق والكذب ، وكأنّه يقول : هَلَك منِ ادّعى الإمامة ، وَرَدِيَ من اقتحمها وَوَلَجَهَا عن غير استحقاق ؛ لأنّ كلامه عليه السلام في هذه الخطبة كلّه كنايات عن الإمامة لا عن غيرها ۳ . وقوله : « اليمين والشمال » ، مثال ؛ لأنّ السالك الطريق المَنْهَجَ اللاحب ناجٍ ، والعادل عنها يمينا وشمالاً مُعرَّض للخطر .
وقوله عليه السلام : « كالغراب » يعني الحرصَ والجشع ، والغراب يقع على الجيفة ، ويقع على الّثمرة ، ويقع على الحبّة ؛ وفي الأمثال : « أجشع من غراب » ، و « أحرص من غراب » .
وقوله : « ويحَه لو قُصّ » ، يريد لو كان قُتِل أو مات قبل أن يتلبّس بالخلافة لكان خيرا له ، من أن يعيش ويدخل فيها ، ثم قال لهم : أفكروا فيما قد قلت ، فإن كان منكَرا فأنكِروه ، وإن كان حقّا فأعينوا عليه .

1.سورة فاطر ۳۲ .

2.لا يقتضي ما قاله ؛ لأنّ الإمام عليه السلام حاله حال النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، فقوله عليه السلام «ونبي أخذ اللّه بيده » يدلّ بالدلالة العرفية بالاقتصار على أظهر الفردين وإرادة الأعم كما هو المتداول في المحاورات ، فالإمام والنبي من سنخ واحد ، النبي قد جاء بالشريعة والإمام حافظ لها . « نهج الصباغة ۴:۵۴۱ » بتصرّف .

3.تعريض بمعاوية ودعواه الإمامة .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
116

وهذه الخطبة من جلائل خطبه عليه السلام ومن مشهوراتها ، قد رواها الناس كلّهم ، وفيها زيادات حذفها الرضيّ ، إمّا اختصارا أو خوفا من إيحاش السامعين ، وقد ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب « البيان والتبيين » على وجهها ۱ .
ورواها عن أبي عُبيدة مَعْمَر بن المُثنّى ، قال : أوّل خطبة خطبها أمير المؤمنين علي عليه السلام بالمدينة في خلافته حمِد اللّه وأثنى عليه ، وصلى على النبيّ صلى الله عليه و آله ، ثم قال : ألا لا يُرْعِيَنَّ مُرْعٍ إلاّ على نفسه . شُغِل مَنِ الجنّة والنارُ أمامه . ساعٍ مجتهد يَنجو ، وطالب يرجو ، ومقصِّر في النار ؛ ثلاثة . وإثنان : مَلَكٌ طار بجَناحَيْه ، ونبيّ أخذ اللّهُ بيده ؛ لا سادس . هَلَكَ من ادَّعَى ، ورَدِيَ من اقتحم . اليمين والشّمال مَضَلّة ، والوسْطَى الجادّة ؛ منهج عليه باقي الكتاب والسُنّة وآثار النبوة . إن اللّه داوَى هذه الأُمّة بدواءيْن : السوْط والسّيْف ، لا هَوَادة عند الإمام فيهما . استَتِرُوا في بيُوتكم ، وأصْلِحُوا ذات بينكم ، والتَّوْبةُ منْ وَرائكم . من أبْدَى صفحتَه للحقّ هلك . قد كانت لكم أُمور مِلتُم فيها عليّ مَيْلَة لم تكونوا عندي فيها محمودين ولا مُصيبين . أما إنّي لو أشاء لقلتُ : عفا اللّه عمّا سلف . سبق الرّجلان وقام الثالث كالغراب ، هِمّتهُ بَطْنه . ويحَهُ لو قُصَّ جناحاه ، وقُطع رأسه لكان خيراً له ! انظروا فإن أنكَرْتم فأنكِروا ، وإن عرفتم فآزروا . حقٌّ وباطل ، ولكلٍّ أهل . ولئن أمِرَ الباطلُ لقديما فَعَل ، وإن قلّ الحق لَرُبّما ولَعَلّ ، وَقلَّما أدبر شيء فأقبل . ولئن رَجَعَتْ إليكم أُمورُكم إنكم لسُعداء ، وإني لأخشَى أن تكونوا في فَترةٍ ، وما علينا إلاّ الاجتهاد .
قال شيخنا أبو عثمان رحمه اللّه تعالى : وقال أبو عبيدة : وزاد فيها في رواية جعفر بن محمد عليهماالسلام عن آبائه عليهم السلام :
« ألا إنّ أبرار عِترَتي ، وأطايبَ أرُومَتي ، أحلم الناس صغارا ، وأعلم الناس عَلِمْنا كبارا ألا وإنّا أهل بيت مِنْ علْم اللّه علمْنا ، وبحُكْمِ اللّه حَكَمْنَا ، ومِنْ قولٍ صادق سَمِعْنا ، فإن تَتبِّعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإنْ لم تفعلوا يُهلِككم اللّه بأيدينا . ومعنا راية الحق ، من تبعها لَحِق ، ومَنْ تأخّر عنها غَرِق . ألا وبنا يُدرَكُ تِرَةُ كل مؤمن ، وبنا تخلع رِبْقة الذلّ عن أعناقكم ، وبنا فُتح لا بِكُم ، ومنا يُختَمُ لا بِكُمْ » .

1.البيان والتبيين ۲ : ۵۰ ـ ۵۲ ، ورواها أيضا ابن قتيبة في عيون الأخبار ۲ : ۲۳۶ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8657
صفحه از 712
پرینت  ارسال به