115
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

الْكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ ، وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ ، وَإلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ . هَلَكَ مَنِ ادَّعَى ، وَخَابَ مَنِ افْتَرَى .
مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ . لاَ يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ ، وَلاَ يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ . فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ ، وَلاَ يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ ، وَلاَ يَلُمْ لاَئِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ .

الشّرْحُ :

الذّمّة : العقْد والعهد ، يقول : هذا الدَّيْن في ذمّتي ، كقولك : في عنقي ؛ وهما كناية عن الالتزام والضّمان والتقلّد . والزّعيم : الكفِيل ، ومخرج الكلام لهم مخرج الترغيب في سماع ما يقوله ، كما يقول المهتَمّ بإيضاح أمر لقوم لهم : أنا المُدْرِكُ المتقلّد بصدْق ما أقوله لكم . وصرّحت : كشَفْت . والعِبَر : جمع عِبْرَة ، وهي الموعظة . والمَثُلات : العقوبات . وحَجزَه : منعه .
وقوله : « لَتُبَلْبَلُنَّ » أي لَتُخْلَطُنَّ ، تبلبلت الألسن ، أي اختلطت . « ولَتُغَرْبَلُنَّ » يجوز أن يكون من الغُرْبال الذي يُغَرْبَلُ به الدّقيق ، ويجوز أن يكون من غَرْبَلْتُ اللحم ، أي قطعته . فإنْ كانَ الأول كان له معنيان : أحدهما الاختلاط ، كالتَّبَلْبُل ؛ لأنّ غربلة الدقيق تخلط بعضَه ببعض . والثاني أن يريدَ بذلك أنه يسْتَخْلِصُ الصالح منكم من الفاسد ، ويَتَمَيَّز كما يُتَمَيَّز الدقيق عند الغَرْبلة من نُخالته . وتقول : ما عصيت فلانا وَشْمة ، أي كلمة . وحِصان شَموس : يمنع ظهره ، شَمَس الفرسُ ، بالفتح ، وبه شِماس . وأمِرَ الباطل : كَثُرَ . وقوله : « لقديما فعل » أي لقديما فعل الباطل ذلك ، ونَسَب الفعل إلى الباطل مجازا . ويجوز أن يكون « فعل » بمعنى « انفعل » كقوله :
قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلهُ فَجَبَرْ
أي فانجَبر . والسِّنْخ : الأصل ، وقوله : « سِنْخ أصل » ، كقوله : كرى النوم . وفي بعض الروايات : « من أبدى صفحته للحق هلك عند جهلة الناس » ، والتأويل مختلف ، فمراده على الرواية الأُولى ـ وهي الصحيحة ـ : مَنْ كاشف الحقّ مخاصما له هَلَك ، وهي كلمة جارية مَجْرَى المثل . ومراده على الرواية الثانية : مَنْ أبدى صفحته لنُصْرَة الحقّ غَلبَه أهلُ الجهل ـ لأنّهم العامّة ، وفيهم الكثرة ـ فهلك .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
114

۱۶

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلام لما بويع بالمدينةذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ . وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ . إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلاتِ ، حَجَزَتْهُ التَّقْوى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ . أَلاَ وَإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللّهُ نَبِيَّهُ . وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً ، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً ، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ ، وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلُكُمْ ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا ، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا .
وَاللّهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً ، وَلاَ كَذَبْتُ كِذْبَةً ، وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهـذَا الْمَقَامِ وَهـذَا الْيَوْمِ .
أَلاَ وَإِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها ، وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا ، فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ في النَّارِ . أَلاَ وَإنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ ، حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا ، وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها ، فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ . حَقٌّ وَبَاطِلٌ ، وَلِكُلٍّ أَهْلٌ ، فَلَئِنْ أَمِرَ الْبَاطِلُ لَقَدِيما فَعَلَ ، وَلَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ فَلَرُبَّما وَلَعَلَّ ، وَلَقَلَّمَا أَدبـَرَ شَيْءٌ فَأَقْبَلَ .

قال الرضي رحمه الله : وأقول : إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان ، وإن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به . وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ، ولا يطَّلع فَجَّها إنسان ، ولا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب في هذه الصناعة بحق ، وجرى فيها على عرق . (وما يَعْقِلُهَا إلاّ الْعَالِمُونَ ) .

ومن هذه الخطبة

۰.شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ أَمَامَهُ ! سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا ، وَطَالِبٌ بَطِيءٌ رَجَا ، وَمُقَصِّرٌ في النَّارِ هَوَى . الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ ، وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8453
صفحه از 712
پرینت  ارسال به