635
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

ثم بَيّن ما هذه الفضائل ، فقال : « منطقهم الصواب » ۱ . قوله عليه السلام : « وملبسهم الاقتصاد » ، أي ليس بالثمين جِدّا ، ولا بالحقير جدّا ، كالخِرَق التي تؤخَذ من عَلَى المزابل ؛ ولكنّه أمرٌ بين أمرين ؛ وكان عليه السلام يلبس الكَرابيسَ ، وهو الخام الغليظ . « ومشْيهُم التّواضع » ، تقديره : وصِفةُ مشيهم التواضع ، فحذف المضاف ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى : « واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ واغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ » ۲ . وقوله : « غَضُّوا أبصارهم » ، أي خَفَضُوها وغَمَضُوها ، وغضضت طرفي عن كذا : احتملت مكروهه . وقوله : « وقفوا أسماعهم على العِلم النافع لهم » ، أي لم يشغَلوا سمعهم بشيء غير العلوم النافعة ، أي لم يشتغلوا بسماع شِعْرٍ ولا غناء ولا أحاديث أهل الدنيا . « نزلت أنفُسهم منهم في البَلاَء ؛ كالَّذي نزلت في الرخاء » ، يعني أنّهم قد طابوا نفساً في البلاء والشدَّة كطيب أنفسهم بأحوالهم في الرّخاء والنعمة ؛ وذلك لقلَّة مبالاتهم بشدائد الدنيا ومصائبها .
ثم قال عليه السلام : إنّهم من شدّة شوقهم إلى الجنة ، ومن شدة خوفهم من النار ، تكاد أرواحُهم أن تفارق أجسادَهم ، لولا أنّ اللّه تعالى ضرب لهم آجالاً ينتهون إليها . ثم ذكر أنّ الخالِقَ لمّا عظُم في أعينهم استصغروا كلَّ شيء دونه ، وصاروا لشدَّة يقينهم ومكاشفتهم ، كمن رأى الجنّة فهو يتنعّم فيها ، وكمن رأى النار وهو يعذَّب فيها ، ولا ريبَ أنّ منْ يشاهد هاتيْن الحالتين ، يكون على قَدَمٍ عظيمة من العبادة والخوف والرجاء . ثم وصفهم بحزن القلوب ، ونحافة الأجسام ، وعفّة الأنفس وخفّة الحوائج ، وأنّ شرورهم مأمونة على الناس ، وأنهم صَبَروا صبرا يسيراً أعقبهم نعيماً طويلاً . ثم ابتدأهم فقال : تجارة مربحة ، أي تجارتهم تجارة مربحة ، فحذف المبتدأ . وروي : « تجارةً مربحةً » ، بالنصب على أنه مصدر محذوف الفعل .
قوله : « أمّا الليلَ » بالنصب على الظرفية ، وروي : « أمّا اللّيلُ » على الابتداء . قوله : « تالين » ، منصوب على أ نّه حال ؛ إمّا من الضمير المرفوع بالفاعلية في « صافُّون » أو من الضّمِير المجرور بالاضافة في « أقدامهم » . والترتيل : التبيين والإيضاح ، وهو ضدّ الإسراع والعَجَل ، ويروى : « يرتّلونه » على أنّ الضمير يعود إلى القرآن ، والرواية الأُولى يعود الضمير فيها إلى أجزاء القرآن . قوله : « يحزنون به أنفسهم » ، أي يستجلبون لها الحُزْن به ،

1.« منطقهم الصواب » المنطق ، النطق ، أي لا يقولون إلاّ حقّاً ، ويحترزون عن الكذب والفحش وسائر الأقاويل الباطلة ، أو لا يقولون ما لا يعتقدون ولا يفعلون .

2.سورة لقمان ۱۹ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
634

الشّرْحُ :

همّام ، المذكور في هذه الخطبة هو همّام بن شُريح بن يَزِيد بن مرّة بن عمرو . وكان همّام هذا من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام وأوليائه ، وكان ناسكا عابداً ، قال له : يا أميرَ المؤمنين ، صِفْ لي المتّقين حتى أصيرَ بوصفك إيّاهم ، كالنّاظر إليهم . فتثاقل عن جوابه ، أي أبطأ .
« فعزم عليه » ، أي أقسم عليه ، وتقول لمن يكرّر عليكَ الطّلب والسّؤال : قد عزم عليّ ، أي أصرّ وقَطع ، وكذلك تقول في الأمر تُريد فعلَه وتَقْطَع عليه : عزمت عَزْما وعَزَمانا وعَزِيمة وعزيما .
فإن قلت : كيف جَازَ له عليه السلام أن يتثاقَل عن جواب المسترشِد؟
قلت : يجوز أن يكون تَثَاقل عن جوابه ؛ لأ نّه علم أن المصلحة في تأخير الجواب .
فإن قلت : فما معنى إجابته له أولاً بقوله : يا همّام ، اتّقِ اللّه وأحسِنْ فَـ « إنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ » ؟ وأي جواب في هذا عن سؤال همام ؟
قلت : كأنّه لم ير في بادئ الحال شرح صفات المتّقين على التفصيل ، فقال لهمام : ماهيّة التقوى معلومة في الجملة ، فاتّق اللّه وأحسن ؛ فإنّ اللّه قد وَعَد في كتابه أن يكون وليّا وناصراً لأهل التقوى والإحسان ۱ .
فلما أبى همّام إلاّ الخوض فيما سأله على وجه التَّفْصيل ، قال له : إنّ اللّه تعالى خَلَق الخلق حين خلقهم ، ويروى : « حيث خلقهم » وهو غَنِيّ عن طاعتهم ؛ لأ نّه ليس بجسم فيستضرّ بأمر أو ينتفع به . وقَسَم بين الخلق معايشهم ، كما قال سبحانه : « نَحْنُ قَسَمنَا بَيْنهُمْ مَعِيشَتهُمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيَا » ۲ ، فكأنّه عليه السلام أخذ الألفاظ ، فألغاها وأتى بمعناها . فلما فرغ من هذه المقدّمة شَرَع في ذكر صفات المتقين ، فقال : إنّهم أهلُ الفضائل .

1.قال ابن ميثم : تثاقله عليه السلام لخوفه على همّام ، كما يدل عليه قوله عليه السلام : « أما واللّه لقد كنت أخافها عليه » . وهذا هو الأصوب . وقوله عليه السلام : « يا همام ، اتق اللّه وأحسن » أي ليس عليك أن تعرف صفات المتقين على التفصيل ، ولعل الأصلح لك القناعة بما تعرفه مجملاً من صفاتهم ومراعاة التقوى والإحسان ، وكأن المراد بالتقوى الاجتناب عمّا نهى اللّه عنه ، وبالإحسان فعل ما أمر اللّه به ، فالكلمة جامعة لصفات المتقين وفضائلهم .

2. . وفي قوله : « وضعهم مواضعهم » معنى قوله : « وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّاً » . سورة الزخرف ۳۲ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 8839
صفحه از 712
پرینت  ارسال به