لا أهلمّه ، أي لا أعطيكه ، يأتي بالهاء ضمير المفعول ليتميّز من الأُولى . يقو عليه السلام : ولكن هات ذكر الخطب ، فحذف المضاف . والخطْب : الحادث الجليل ؛ يعني الأحوال التي أدّت إلى أن صار معاوية منازعا في الرياسة ، قائما عند كثير من النّاس مقامه ، صالحاً لأنْ يقع في مقابلته ، وأن يكون ندّا له .
ثم قال : « فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه » ، يشير إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدّم مَنْ سلف عليه ؛ فلم يقنع الدّهر له بذلك ، حتى جعل معاوية نظيرا له ؛ فضحك عليه السلام مما تحكُم به الأوقات ، ويقتضيه تصرّف الدّهر وتقلّبه ؛ وذلك ضَحِك تعجُّب واعتبار .
ثم قال : « ولا غَرْوَ واللّه » ، أي ولا عَجَب واللّه . ثم فسَّرَ ذلك فقال : يا له خطباً يستفرغُ العجب ! أي يستنفده ويفنيه ، يقول : قد صار العجبُ لا عجبَ ؛ لأنّ هذا الخَطْب استغرق التعجّبَ ؛ فلم يبق منه ما يطلَق عليه لفظ التعجُّب ؛ وهذا من باب الإغراق والمبالغة في المبالغة . والأوَد : العوَج . ثم ذكر تمالؤ قريش عليه ، فقال : حاول القوْمُ إطفاء نور اللّه من مصباحه ، يعني ما تقدّم من منابذة طَلْحة والزبير وأصحابهما له ، وما شفع ذلك من معاوية وعمرو وشيعتهما . وفوّار اليَنْبوع : ثقب البئر . قوله : « وجدحوا بيني وبينهم شِرْباً » ، أي خلطوه ومزجوه وأفسدوه . والوِبئ : ذو الوباء والمرض ؛ وهذا استعارة كأنّه جعل الحال التي كانت بينه وبينهم قد أفسدها القوم ، وجعلوها مَظِنّة الوباء والسَّقَم ، كالشرب الذي يخلط بالسمّ أو بالصَّبرِ فيفسد ويَوْبأ .
ثم قال : فإن كشف اللّه تعالى هذه المحنَ التي يحصل منها ابتلاء الصابرين والمجاهدين ، وحصل لي التمكّن من الأمر ، حملتُهم على الحقّ المحض الذي لا يمازجُه باطل ، كاللبن المحْضِ الذي لا يخالطه شيء من الماء ، وإن تكُن الأُخرى ، أي وإنْ لم يكشف اللّه تعالى هذه الغمّة ومتّ أو قتلت ـ والأُمور على ما هي عليه من الفتنة ودولة الضلال ـ فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات ؛ والآية من القرآن العزيز .
قال ابن أبي الحديد : وسألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلويّ نقيب البصرة ، وقت قراءتي عليه ، عن هذا الكلام ، وكان ؛ على ما يذهب إليه من مذهب العَلَويّة منصفا وافر العقل ، فقلت له : مَنْ يعني عليه السلام بقوله : « كانت أثَرةً شحَّت عليها نفوس قوم ، وسَخَت عنها نفوس آخرين » ؟ ومَن القومُ الّذين عناهم الأسديّ بقوله : « كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقّ به » ؟ هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى؟