89
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

بنيانهم فوق بنيانهم ، وأعلى رؤوسهم فوق رؤوسهم ، واختارهم عليهم ! أَلا إنّ الذريّة أفنانٌ أنا شجرتها ، ودوحةٌ أنا ساقها ، وإنّى مِن أحَمدَ بمنزلة الضّوء من الضّوء ، كنّا ضلالاً تحت العرش قبل خلق البشر ، وقبل خلق الطِّينة التي كان منها البشر ، أشباحا عالية ، لا أجساما نامية ، إنّ أمرنا صعب مستصعَب ، لا يعرِف كنهه إلاّ ثلاثة : ملَك مقرّب ، أو نبيٌّ مرسَل ، أو عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان ، فإذا انكشف لكم سرٌّ أو وضح لكم أمر فاقبلوه ، وإلاّ فاسكُتوا تسلموا ، وردُّوا علمَنا إلى اللّه فإنّكم في أوسع مما بين السماء والأرض » .
وخامسها : قوله : «سلُوني قبل أن تفقِدوني» ، أجمع النّاس كلُّهم على أنه لم يقلْ أحد من الصحابة ، ولا أحد من العلماء : «سلوني» غير عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ذكر ذلك ابن عبد البر المحدّث في كتاب «الاستيعاب» ۱ .
والمراد بقوله : «فلأنا أعلم بطرُق السماء منّي بطرق الأرض» ، ما اختصّ به من العلم بمستقبل الأُمور ، ولا سيّما في الملاحم والدّول ، وقد صدّق هذا القولَ عنه ما تواتر عنه من الإخبار بالْغيوب المتكرّرة ، لا مرة ولا مئة مرة ، حتى زال الشكّ والرّيب في أنه إخبار عن علم ، وأنه ليس على طريق الاتفاق .

۲۳۶

الأصْلُ:

۰.ومن خطبة له عليه السلامأَحْمَدُهُ شُكْراً لاِءِنْعَامِهِ ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ ، عَزِيزَ الْجُنْدِ ، عَظِيمَ الْمَجْدِ . وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ ، وَقَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ ، لاَ يَثْنِيهِ عَنْ ذلِكَ اجْتَِماعٌ عَلى تَكْذِيبِهِ ، وَالِْتمَاسٌ لاِءِطْفَاءِ نُورِهِ .

1.الاستيعاب في معرفة الأصحاب : القسم الثالث .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
88

كان للّه تعالى في أهل الأرض حاجة» .
ثم ذكر أنّه لا يصحّ أن يعدَّ الإنسان من المهاجرين إلاّ بمعرفة إمام زمانه ، وهو معنى قوله : «إلاّ بمعرفة الحجّة في الأرض» . قال : «فمن عرف الإمام وأقرّ به فهو مهاجر» . ولا يجوز أن يسمّى مَنْ عرف الإمام مستضعفا .
فإن قلت : فما معنى قوله : «من مستسرّ الإمّة ومعلنها» ، وبماذا يتعلّق حرف الجر؟
قلت : معناه : ما دام للّه في أهل الأرض المستسرّ منهم باعتقادهِ والمعلن حاجة ، فـ « من » على هذا زائدة ، فلو حذفت لجر المستسر بدلاً من أهل الأرض ، ومن إذا كانت زائدة لا تتعلّق ، نحو قولك : ما جاءني من أحد .
ورابعها : قوله عليه السلام : «إن أمرَنا هذا صعب مستصعَب» ، ويروى : «مستصعِب ـ بكسر العين ـ لا يحتمله إلاّ عبد امتحن اللّه تعالى قلبَه للإيمان» ، هذه من ألفاظ القرآن العزيز ، قال اللّه تعالى : «أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ للتَّقْوَى» ۱ ، وهو من قولك : امتُحِن فلان لأمر كذا وجُرّب ودُرّب للنهوض به ، فهو مضطلع به غير وانٍ عنه ، والمعنى أنهم صُبَّرٌ على التقوى ، أقوياء على احتمال مشاقّها ، ويجوز أن يكون وضع الامتحان موضع المعرفة ؛ لأنّ تحققك الشيء إنما يكون باختباره كما يوضع الخبر موضع المعرفة ، فكأنه قيل : عرف اللّه قلوبَهم للتّقوى ، فتتعلّق اللام بمحذوف ، أي كائنة له ، وهي اللام التي في قولك : أنت لهذا الأمر ، أي مختصٌّ به . ويجوز أن يكون المعنى : ضرب اللّه قلوبَهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى ، أي لتثبت فيظهر تقواها ، ويعلم أنهم متّقون ، لأنّ حقيقة التّقوى لا تعلَم إلاّ عند المحن والشدائد والاصطبار عليها . ويجوز أن يكون المعنى أنه أخلصَ قلوبهم للتقوى ، من قولهم : امتحن الذّهب ، إذا أذابه فخلّص إبريزه من خَبَثه ونَقّاه .
وهذه الكلمة قد قالها عليه السلام مرارا ، ووقفت في بعض الكتب على خُطبة من جملتها : « إنّ قريشا طلبت السعادة فشقِيتْ ، وطلبت النجاة فهلكَت ، وطلبت الهدَى فضلّت ، ألم يسمعوا ـ ويحهم ـ قوله تعالى : «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بإيمانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» ۲ ؟ فأين المعدَل والمنزع عن ذريّة الرسول ، الذين شيّد اللّه

1.سورة الحجرات ۳ .

2.سورة الطور ۲۱ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 5698
صفحه از 800
پرینت  ارسال به