35
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

غَرَّتْكَ ، وَلكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ ، وَلَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ ، وَآذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ . وَلَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلاَءِ بِجِسْمِكَ ، وَالنَّقْص فِي قُوَّتِكَ ، أَصْدَقُ وَأَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ ، أَوْ تَغُرَّكَ . وَلَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ ، وَصَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ . وَلَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ ، وَالرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ ، لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ ، وَبَلاَغِ مَوْعِظَتِكَ ، بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ ، وَالشَّحِيحِ بِكَ ! وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً ، وَمَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلاًّ!
وَإِنَّ السُّعَدَاءَ بالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْم . إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ ، وَحَقَّتْ بِجَلاَئِلِهَا الْقِيَامَةُ ، وَلَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ ، وَبِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ ، وَبِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ ، فَلَمْ يَجْرِ فِي عَدْلِهِ وَقِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ ، وَلاَ هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْض إِلاَّ بِحَقِّهِ ، فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ ، وَعَلاَئِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ ! فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِكَ مَا يَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ ، وَتَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ ، وَخُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لاَ تَبْقَى لَهُ ؛ وَتَيَسَّرْ لِسَفَرِكَ ؛ وَشِمْ بَرْقَ النَّجَاةِ ؛ وَارْحَلْ مَطَايَا التَّشْمِيرِ .

الشّرْحُ:

لقائل أن يقول : لو قال : «ما غرك بربك العزيز أو المنتقم» أو نحو ذلك ، لكان أوْلَى ؛ لأنّ للإنسان المعاتب أن يقول : غرّني كرمُك الّذي وصفتَ به نفسك!
وجواب هذا أنْ يقال : إنّ مجموع الصفات صار كشيء واحد ، وهو الكريم الذي خَلقك فسوّاك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركّبك . والمعنى : ما غرّك بربٍّ هذه صفته ، وهذا شأنه ، وهو قادر على أن يجعلك في أي صورة شاء ! فما الذي يؤمِّنك من أن يمسخك في صورة القرَدة والخنازير ونحوها من الحيوانات العجم ؟ ومعنى الكريم هاهنا : الفيّاض على المواد بالصور ، ومَنْ هذه صفته ينبغي أن يُخاف منه تبديل الصورة .
قال عليه السلام : «أدحض مسئول حُجّة» المبتدأ محذوف ، والحجة الداحضة : الباطلة .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
34

۲۱۸

الأصْلُ:

۰.ومن كلام له عليه السلام قاله عند تلاوته: «يَا أَيُّهَا الاْءِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ» ۱ .
أَدْحَضُ مَسْؤولٍ حُجَّةً ، وَأَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً ، لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ . يَا أَيُّهَا الاْءِنْسَانُ ، مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنبِكَ ، وَمَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ، وَمَا أنـَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ ! أَمَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ ، أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمَتِكَ يَقَظَةٌ؟ أَمَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ؟ فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْس فَتُظِلُّهُ ، أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ ! فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ ، وَجَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ ، وَعَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ وَهِيَ أَعَزُّ الأنْفُس عَلَيْكَ ! وَكَيْفَ لاَ يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ ، وَقَدْ تَوَرَّطْتَ بمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ؟! فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ ، وَمِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ ، وَكُنْ لِلّهِ مُطِْيعاً ، وَبِذِكْرِهِ آنِساً . وَتَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ إِقْبَالَهُ
عَلَيْكَ ، يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ ، وَيَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ ، وَأَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ . فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ ! وَتَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ! وَأَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ ، وَفِي سَعَةِ فَضْلِهِ مَتَقَلِّبٌ . فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ ، وَلَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ ، بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ ، أَوْ سَيّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ ، أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ . فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ!
وَايْمُ اللّهِ لَوْ أَنَّ هذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ ، مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ ، لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الأخْلاَقِ ، وَمَسَاوِئِ الأعْمَالِ . وَحَقّاً أَقُولُ ! مَا الدُّنْيَا

1.سورة الانفطار ۶ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 6017
صفحه از 800
پرینت  ارسال به