قد تَكرّر ، وقال طَرَفة :
عن المرءِ لاَ تسأَلْ وسَلْ عن قَرِينِهفإنّ القَرِينَ بالمُقارن يَقتدِي
ومنها قوله : «واسكُن الأمْصار العظام» ، قد قيل : لا تسكن إلاّ في مصرٍ فيه سوقٌ قائمة ، ونهرٌ جارٍ ، وطبيبٌ حاذق ، وسلطانٌ عادل ، فأما مَنازل الغَفْلة والجفاء ، فمِثلُ قُرَى السّواد الصغار ، فإنّ أهلها لا نُورَ فيهم ، ولا ضوءَ عليهم ، وإنّما هم كالدّوابّ والأنعام ، هَمُّهم الحَرْث والفِلاحة ، ولا يفقهون شيئا أصْلاً ، فمجاوَرَتهم تُعْمِي القلب ، وتُظلِم الحِسّ ، وإذا لم يَجِد الإنسانُ مَنْ يُعينه على طاعةِ اللّه وعلى تَعلُّم العِلم قصَّر فيهما .
ومنها قوله : «واقصر رأيَك على ما يَعْنيك» ، كان يقال : من دَخَل فيما لا يَعْنيه فاتَه ما يَعْنيه . ومنها نَهيُه إيّاه عن القُعود في الأسْواق . قد جاء في المَثَل : السُّوق محلّ الفُسوق . وجاء في الخبر المرفوع : «الأسواقُ مَواطنُ إبليس وجندِه» ، وذلك لأنّها قلّما تخلو عن الأيْمان الكاذبة ، والبُيوع الفاسدة ، وهي أيضا مَجمَع النّساء المُومِسات ، وفجّار الرجال ، وفيها اجتماعُ أرباب الأهواء والبِدَع ، فلا يخلُو أن يتَجادَل اثنان منهم في المذاهب والنَّحِل فيُفضِي إلى الفِتَن .
ومنها قوله : «وانظر إلى من فُضِّلْتَ عليه» ، كان يقال : اُنظُر إلى مَن دُونَك ، ولا تَنظُر إلى مَنْ فَوْقَك . وقد بيّن عليه السلام السرّ فيه فقال : إنّ ذلك من أبواب الشّكر ، وصَدَق عليه السلام ؛ لأنّك إذا رأيتَ جاهلاً وأنتَ عالم ، أو عالما وأنت أعلَمُ منه ، أو فقيرا وأنتَ أغْنَى منه ؛ أو مُبتلىً بسَقَم وأنتَ مُعافىً عنه ، كان ذلك باعثا وداعِيا لك إلى الشكر .
ومنها نَهيهُ عن السّفر يومَ الجمعة ، ينبغي أن يكون هذا النهيُ عن السَّفَر يومَ الجمعة قبلَ الصلاة ، وأمّا بعدَ الصلاة ، فلا بأس به ، واستَثْنَى فقال : إلاّ فاصلاً في سبيل اللّه ، أي شاخِصا إلى الجهاد . «أو في أمرٍ تُعذَر به» ، أي لضرورة دَعَتْك إلى ذلك .
ومنها قولُه : «وأطعِ اللّهَ في جُمَل أُمورك» ، أي في جُمْلَتها ، وفيها كلّها ، وليس يَعنِي في جُملَها دونَ تَفاصِيلها ، قال : فإنّ طاعةَ اللّه فاضلةٌ على غيرها ، وصَدَق عليه السلام ؛ لأنّها توجب السعادةَ الدائمة ، والخلاصَ من الشّقاء الدائم ، ولا أفضلَ ممّا يؤدِّي إلى ذلك .
ومنها قوله : «وخادِعْ نَفسَك في العبادة» ، أمَرَه أن يَتلطّف بنفسه في النّوافل ، وأن يُخادِعَها ولا يقْهَرها فتَملَّ وتَضجَر وتترُك ، بل يأخذ عفوَها ، ويتوخّى أوقات النشاط ، وانشراحَ الصّدر للعبادة .