عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ ، وَدُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ ، مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ ، أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ .
وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ ، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا .
الشّرْحُ:
هذا موضع المثل : «ملْعاً يا ظليم وإلاّ فالتَخْوِيَةُ» مَنْ أراد أن يعظَ ويخوّف ، ويقرع صَفَاةَ القلب ، ويعرّف الناس قدر الدنيا وتصرّفها بأهلها ، فليأتِ بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح وإلاّ فليمسِك ، فإنّ السكوت أستر ، والعيّ خير من منطق يفضح صاحبه . وَمَنْ تأمّل هذا الفصل ، علم صدق معاوية في قوله فيه : « واللّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره » .
وأُقسم بمن تُقسِم الأُمم كلّها به ؛ لقد قرأتُ هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة ، ما قرأتها قطّ إلاّ وأحدثتْ عندي روعة وخوفا وعظة ، وأثّرَت في قلبي وجيبا ، وفي أعضائي رِعْدة ، ولا تأمّلتُها إلاَّ وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي ، وأرباب ودّي وخيّلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف عليه السلام حالَه .
وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى ! وكم وقفت على ما قالوه وتكرّر وقوفي عليه ! فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي ؛ فإمّا أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله ، أو كانت نيّة القائل صالحة ، ويقينه كان ثابتا ، وإخلاصه كان محضا خالصا ، فكان تأثير قوله في النّفوس أعظم ، وسريان موعظته في القلوب أبلغ .
ثم نعود إلى تفسير الفصل :
فالبرزخ : الحاجز بين الشيئين ، والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى
البعث ، فيجوز أن يكون البرزخ في هذا الموضع القبْر ؛ لأنّه حاجز بين الميّت وبين أهل الدنيا ، كالحائط المبنيّ بين اثنين ، فإنّه برزخ بينهما ، ويجوز أن يريد به الوقت الذي بين حال الموت إلى حال النّشور ، والأول أقرب إلى مراده عليه السلام ؛ لأنّه قال : «في بطون البرزخ» ولفظة «البطون » تدلّ على التفسير الأوّل . ولفظتا «أكلت الأرض من لحومهم وشربت من دمائهم» مستعارتان . والفَجَوات : جمع فَجْوة وهي الفُرْجة المتّسعة بين الشيئين ، قال