25
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

سبحانه : «وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ » ۱ ، وقد تفاجَى الشيء ؛ إذا صارت له فجوة . «وجماد لا ينمون» ، أي خرجوا عن صورة الحيوانية إلى صورة الجماد الذي لا ينمي ولا يزيد . ويروى : «لا ينِمّون» بتشديد الميم ، من النميمة وهي الهمس والحركة ، ومنه قولهم : أسكت اللّه نامّته ، في قول من شدّد ولم يهمز . وضِماراً ، يقال لكلّ ما لا يرجى من الدّيْن والوعد ، وكلّ ما لا تكون منه على ثقة : ضِمَـار .
ثم ذكر أنّ الأهوال الحادثة في الدنيا لا تُفزِعهم ، وأنّ تنكّر الأحوال بهم وبأهل الدنيا لا يحزنهم . ويروى «تُحْزِنهم» على أنّ الماضي رباعيّ . ومثله قوله : «لا يحفِلُون بالرواجف » ، أي لا يكترثون بالزلازل . «ولا يأذنُون للقواصف» ، أي لا يسمعون الأصوات الشديدة ، أذنت لكذا ، أي سمعته . وجمع الغائب غُيّب وغَيَب ، وكلاهما مرويٌّ هاهنا ، وأراد أنهم شهود في الصورة ، وغير حاضرين في المعنى . وأُلاّف ، على فُعّال : جمع آلف ؛ كالطُّرّاق جمع طارق ، والسُّمّـار : جمع سامر ، والكُفّار جمع كافر .
ثم ذكر أنه لم تَعْمَ أخبارهم ، أي لم تستبهِم أخبارهم وتنقطع عن بعد عهد بهم ، ولا عن بعد منزل لهم ، وإنّما سُقوا كأسَ المنون التي أخرستهم بعد النطق ، وأصَمَّتْهُمْ بعد السمع ، وأسكنتهم بعد الحركة . وقوله : «وبالسَّمع صمماً» ، أي لم يسمعوا فيها نداء المنادي ، ولا نوح النائح ، أو لم يسمع في قبورهم صوت منهم . «فكأنهم في ارتجال الصّفة» ، أي إذا وصفهم الواصف مرتجلاً غير متروٍّ في الصفة ، ولا متهيئ للقول ، كأنهم «صرعى سُبات» ، وهو نوم ؛ لأنّه لا فرق في الصورة بين الميِّت حال موته والنائم المسبوت .
ثم وصفهم ، بأنّه جيران إلاّ أنهم لا مؤانسة بينهم كجيران الدنيا ، وأنّهم أحبّاء إلاّ أنهم لا يتزاورون كالأحباب من أهل الدنيا . وقوله : «أحبّاء» جمع حبيب ، كخليل وأخلاّء ، وصديق وأصدقاء . ثم ذكر أنّ عُرا التعارف قد بليَتْ منهم وانقطعت بينهم أسباب الإخاء ؛
وهذه كلها استعارات لطيفة مستحسنة .
ثم وصفهم بصفة أُخرى ، فقال : كلّ واحدٍ منهم موصوف بالوحْدة ؛ وهم مع ذلك مجتمعون ، بخلاف الأحياء الذين إذا انضمّ بعضهم إلى بعض انتفى عنه وصف الوحدة . ثم قال : «وبجانب الهجر وهم أخلاّء» ، أي وكلّ منهم في جانب الهجر وهم مع ذلك أهل خُلّة ومودّة ، أي كانوا كذلك . وهذا كله من باب الصناعة المعنوية ، والمجاز الرشيق . ثم قال : إنّهم

1.سورة الكهف ۱۷ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
24

عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ ، وَدُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ ، مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ ، أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ .
وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ ، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا .

الشّرْحُ:

هذا موضع المثل : «ملْعاً يا ظليم وإلاّ فالتَخْوِيَةُ» مَنْ أراد أن يعظَ ويخوّف ، ويقرع صَفَاةَ القلب ، ويعرّف الناس قدر الدنيا وتصرّفها بأهلها ، فليأتِ بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح وإلاّ فليمسِك ، فإنّ السكوت أستر ، والعيّ خير من منطق يفضح صاحبه . وَمَنْ تأمّل هذا الفصل ، علم صدق معاوية في قوله فيه : « واللّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره » .
وأُقسم بمن تُقسِم الأُمم كلّها به ؛ لقد قرأتُ هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة ، ما قرأتها قطّ إلاّ وأحدثتْ عندي روعة وخوفا وعظة ، وأثّرَت في قلبي وجيبا ، وفي أعضائي رِعْدة ، ولا تأمّلتُها إلاَّ وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي ، وأرباب ودّي وخيّلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف عليه السلام حالَه .
وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى ! وكم وقفت على ما قالوه وتكرّر وقوفي عليه ! فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي ؛ فإمّا أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله ، أو كانت نيّة القائل صالحة ، ويقينه كان ثابتا ، وإخلاصه كان محضا خالصا ، فكان تأثير قوله في النّفوس أعظم ، وسريان موعظته في القلوب أبلغ .
ثم نعود إلى تفسير الفصل :
فالبرزخ : الحاجز بين الشيئين ، والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى
البعث ، فيجوز أن يكون البرزخ في هذا الموضع القبْر ؛ لأنّه حاجز بين الميّت وبين أهل الدنيا ، كالحائط المبنيّ بين اثنين ، فإنّه برزخ بينهما ، ويجوز أن يريد به الوقت الذي بين حال الموت إلى حال النّشور ، والأول أقرب إلى مراده عليه السلام ؛ لأنّه قال : «في بطون البرزخ» ولفظة «البطون » تدلّ على التفسير الأوّل . ولفظتا «أكلت الأرض من لحومهم وشربت من دمائهم» مستعارتان . والفَجَوات : جمع فَجْوة وهي الفُرْجة المتّسعة بين الشيئين ، قال

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 6078
صفحه از 800
پرینت  ارسال به