الْفُجُورِ ، وَالْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ ، وَرُبَّ سَاعٍ فِيَما يَضُرُّهُ ! مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ ، وَمَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ . قَارِنْ أهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ ، وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ . بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ ! وَظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ . إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً . رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً ، وَالدَّاءُ دَوَاءً . وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ ، وَغَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ . وَإِيَّاكَ وَالاِتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى ، وَالْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ ، وَخَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ . بَادِرِ الْفُرْصَةَ ، قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً . لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ ، وَلاَ كُلُّ غَائِبٍ يَؤُبُ ، وَمِنَ الْفَسَادِ ، إِضَاعَةُ الزَّادِ ، وَمَفْسَدَةُ الْمَعَادِ . وَلِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ ، سَوْفَ يَاْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ .
التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ ، وَرُبَّ يَسِيرٍ ، أَنْمَى مِنْ كَثِيرٍ!
الشّرْحُ:
هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة حكميّة :
أوّلها ـ قوله : «تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك» ، وهذا مثل قولهم : أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاما ، ولستَ بقادر على أن تجعل كلامك صمتاً ؛ وهذا حقّ ؛ لأنّ الكلام يُسمع وينقل ؛ فلا يستطاع إعادته صمتاً ، والصمت عدم الكلام ، فالقادر على الكلام ، قادر على أن يبدّله بالكلام ، وليس الصمت بمنقول ولا مسموع فيُتعذَّر استدراكه .
وثانيها ـ قوله : «حفظ ما في يَدَيْك أحبّ إليّ من طلب ما في يدي غيرك» ، هذا مثل قولهم في المثل : البخل خير من سؤال البخيل . وليس مراد أمير المؤمنين عليه السلام وصايته بالإمساك والبخل ، بل نهيه عن التفريط والتبذير ، قال اللّه تعالى «وَلاَ تبْسُطْهَا كلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَحْسُورا» ۱ .
وثالثها ـ قوله : «مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس» من هذا أخذ الشاعر قوله :
وإن كان طعم اليأس مُرّا فإنّهُألذّ وأحْلَى من سؤال الأراذِلِ
ورابعها ـ قوله : «الحِرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور» ، والحرْفة بالكسر مثل الحُرف بالضمّ ، وهو نقصان الحظ وعدم المال . ومنه قوله : «رجل محارَف» ، بفتح الراء ، يقول : لأنّ يكون المرء هكذا وهو عفيف الفَرْج واليد ، خير من الغنى مع الفجور ؛ وذلك لأنّ ألم الحرفة مع العفة ومشقّتها إنما هي في أيام قليلة وهي أيام العمر ، ولذّة الغنى إذا كان مع الفجور ، ففي مثل تلك الأيام يكون ؛ ولكن يستعقب عذاباً طويلاً ، فالحال الأُولى خيرٌ لا محالة . وأيضا ففي الدنيا خير أيضا للذكر الجميل فيها ، والذكر القبيح في الثانية ، وللمحافظة على المروءة في الأُولى وسقوط المروءة في الثانية .
وخامسها ـ قوله : «المرء أحفظ لسرّه» ، أي الأوْلى ألاّ تبوح بسرّك إلى أحد ، فأنت أحفظ له من غيرك ؛ فإن أذعتَهُ فانتشر فلا تَلُمْ إلاّ نفسك ؛ لأنك كنت عاجزا عن حفظ سرّ نفسك ، فغيرك عن حفظ سرّك وهو أجنبيٌّ أعجز .
وسادسها ـ قوله : «رُبَّ ساع فيما يضرّهُ» ، قال عبد الحميد الكاتب في كتابه إلى أبي مسلم : لو أراد اللّه بالنملة صلاحا ، لما أنبت لها جَناحا .
وسابعها ـ قوله : «من أكثر أهجر» يقال : أهجر الرجل ؛ إذا أفحش في المنطق السوء والخنا . وهذا مثل قولهم : مَنْ كثر كلامه كثر سَقَطه .
وثامنها ـ قوله : «مَنْ تفكّر أبصرَ» ؛ قالت الحكماء : الفكر تحديق العقل نحو المعقول ، كما أنّ النظر البصريّ تحديق البصر نحو المحسوس ، وكما أنّ من حدّق نحو المبصر وحدقته صحيحة والموانع مرتفعة لابدّ أن يبصره ؛ كذلك من نظر بعين عقله ، وأفكر فكراً صحيا ، لابدّ أن يدرك الأمر الذي فكّر فيه ويناله .
وتاسعها ـ قوله : «قارن أهلَ الخير تكن معهم ، وباين أهل الشرّ تَبِنْ عنهم» ، كان يقال : حاجبك وجهك ، وكاتبك لسانك ، وجليسك كلّك .
عن المرء لا تسألْ وسلْ عن قرينهِفكلّ قَرينٍ بالمُقارِن مُقْتَدِ
وعاشرها ـ قوله : «بئس الطعام الحرام» ، هذا من قوله تعالى : «إنَّ الذِينَ يأْكُلونَ أمْوالَ اليَتَامى ظُلْما إنَّمَا يأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارا وَسيَصْلَوْنَ سَعِيرا» ۲ .