221
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

وَجَنَاباً مَرِيعاً ، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ ، وَفِرَاقَ الصَّدِيقِ ، وَخُشُونَةَ السَّفَرِ ، وَجُشُوبَةَ الْمَطْعَمِ ، لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ ، وَمَنْزِلَ قَرَارِهِمْ ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذلِكَ أَلَماً ، وَلاَ يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيهِ مَغْرَماً . وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ وَأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلَّتِهِمْ .
وَمَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ ، فَنَبا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيبٍ ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ ، وَلاَ أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ ، إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَليْهِ ، وَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ .

الشّرْحُ:

حذا عليه يحذو ، واحتذى مثاله ، يحتذي ، أي اقتدى به . وقوم سَفْر ، بالتسكين ، أي مسافرون . وأمُّوا : قصدوا . والمنزل الجديب : ضدّ المنزل الخصيب . والجناب المَرِيع بفتح الميم : ذو الكلأ والعشب ، وقد مَرُع الوادي ، بالضمّ . والجَناب : الفناء . ووعْثاء الطريق : مشقّتها . وجشوبة المطعم : غِلَظه ، طعام جشيب ومجشوب ، ويقال إنّه الذي لا أدْم معه .
يقول : مثلَ من عرف الدنيا وعمل فيها للآخرة كمن سافر من منزل جدب إلى منزل خصيب ، فلقي في طريقه مشقّة ؛ فإنه لا يكترث بذلك في جنب ما يطلب ؛ وبالعكس من عمل للدنيا وأهمل أمر الآخرة ، فإنه كمن يسافر إلى منزل ضَنْك ويهجر منزلاً رحيبا طيباً ، وهذا من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «الدّنيا سِجْن المؤمن وجنّة الكافر» .

الأصْلُ:

۰.يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ ، وَاكْرَهُ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا ، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ ، وَارْضَ مِنَ النَّاس بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مَنْ نَفْسِكَ ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَاتَعْلَمُ ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الاْءِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ ، وَآفَةُ الْأَلْبَابِ ؛ فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ ، وَلاَ تَكُنْ


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
220

إهمال ذلك إلى السّفه واستفساد المكلّفين ، وذلك لا يجوز ؛ ولكنا ما أتانا رسول يدعو إلى إثبات ثانٍ في الإلهيّة فبطل كون القول بالتوحيد ضلالاً ، وإذا لم يكن ضلالاً كان حقاً ؛ فنقيضه وهو القول بإثبات الثاني باطل .
الوجه الثاني : أنه لو كان في الوجود ثانٍ للقديم تعالى لوجب أن يكون لنا طريقٌ إلى إثباته ، إمّا من مجرد أفعاله ، أو من صفات أفعاله ، أو من صفات نفسه ، أو لا من هذا ولا من هذا ، فمن التوقيف .
وهذه هي الأقسام التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأنّ قوله : «أتتك رسله» هو التوقيف ، وقوله : «ولرأيت آثار ملكه وسلطانه» هي صفات أفعاله ، وقوله : « ولعرفت أفعاله وصفاته» هما القسمان الآخران .
أما إثبات الثاني من مجرّد الفعل فباطل ؛ لأنّ الفعل إنما يدلّ على فاعل ولا يدلّ على التعدّد ، وأمّا صفات أفعاله وهي كون أفعاله محكمة متقنة ، فإن الإحكام الذي نشاهده إنّما يدل على عالم ولا يدلّ على التعدّد ، وأمّا صفات ذات الباري فالعلم بها فرع على العلم بذاته ، فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور .
وأمّا التوقيف فلم يأتنا رسول ذو معجزة صحيحة يدعونا إلى الثاني ؛ وإذا بطلت الأقسام كلّها ، وقد ثبت أن ما لا طريق إلى إثباته لا يجوز إثباته بطل القول بإثبات الثاني .
ثم قال : «لا يضادّه في مُلْكه أحد» ، ليس يريد بالضدّ ما يريده المتكلّمون من نفي ذات هي معاكسة لذات الباري تعالى في صفاتها ، كمضادّة السواد للبياض ، بل مراده نفي الثاني لا غير ، فإنّ نفي الضدّ بحث آخر لا دخول له بين هذا الكلام .
ثم ذكر له أنّ الباري تعالى قديم سابق للأشياء ، لا سبْقا له حدّ محدود ، وأول معيّن ، بل لا أوّل له مطلقا . ثم قال : وهو مع هذا آخر الأشياء ، آخرية مطلقة ليس تنتهي إلى غاية معينة . ثم ذكر أنّ له ربوبيّة جلّت عن أن تحِيط بها الأبصار والعقول .

الأصْلُ:

۰.يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ أَنْبَأتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَحَالِهَا ، وَزَوَالِهَا وَانْتِقَالِهَا ، وَأَنْبَأتُكَ عَنِ الآخِرَةِ وَمَا اُعِدَّ لِأَهْلِهَا فِيهَا ، وَضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الْأَمْثَالَ ، لِتَعْتَبِرَ بِهَا ، وَتَحْذُوَ عَلَيْهَا .
إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ ، نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ ، فأَمُّوا مَنْزِلاً خَصِيباً

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 6099
صفحه از 800
پرینت  ارسال به