173
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

ويُروي : «إلاّ حُشاشةَ نفسٍ» ، بالإفراد ، وهو بقيّة الرُّوح في بَدَن المريض . ورُوِي : « ألا ومَن أكله الحقّ فإلى النار» ، وهذه الرواية أليَق من الرّواية المذكورة في أكثر الكُتُب ؛ لأنّ الحق يأكل أهلَ الباطل ، ومَن رَوَى تلك الرواية أضمَر مُضافا تقديرُه «أعداءَ الحق» ، ومضافاً آخَر تقديرُه «أعداءَ الباطل» . ويجوز أن يكون مَنْ أكله الحقّ فإلى الجَنّة ، أي من أفضَى به الحقّ ونُصرتُه والقيامُ دونَه إلى القتل ؛ فإنّ مصيرَه إلى الجنّة ، فيسمّي الحقّ لما كانت نُصرتُه كالسبب إلى القَتْل أَكْلاً لذلك المقتول ، وكذلك القولُ في الجانب الآخَر .
وكان الترتيب يقتضي أن يجعل هاشما بإزاءِ عبدِ شمس ؛ لأنّه أخوه في قُعدد ، وكِلاهُما ولَدُ عبدِ منَاف لصُلْبه ، وأن يكون أُميّة بإزاء عبد المطلب ، وأن يكون حَرْبٌ بإزاء أبي طالب ، وأن يكون أبو سُفيانَ بإزاء أميرِ المؤمنين عليه السلام ؛ لأنّ كلّ واحد من هؤلاء في قُعْدُدِ صاحبه ، إلاّ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا كان في صِفّين بإزاء معاويةَ اضطُرّ إلى أن جَعَل هاشما بإزاء أُميّة بن عبد شمس .
فإن قلت : فهلاّ قال : «ولا أنا كأنت»؟
قلتُ : قبيحٌ أن يقال ذلك ، كما لا يقال : السَّيفُ أمضَى من العصا ، بل قبيحٌ به أن يقولها مع أحدٍ من المسلمين كافّةً ، نعم قد يقولها لا تَصريحا ، بل تَعرِيضا ؛ لأنّه يرفع نفسَه على أن يقيسَها بأَحَد . وهاهنا قد عرّض بذلك في قوله : «ولا المهاجِرُ كالطَّليق» .
فإن قلتَ : فهل معاويةُ من الطُّلقَاء؟
قلت : نعم ، كلُّ من دَخل عليه رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله وسلممَكّة عَنْوةً بالسّيف فملكه ثم مَنَّ عليه عن إسلامٍ أو غيرِ إسلام فهو من الطُّلَقاء ممّن لم يُسلم كصَفْوان بن أُميّة ، ومَن أسلَم كمعاوية بن أبي سُفْيان ، وكذلك كلُّ من أُسِرَ في حَرْب رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ثم امتَنّ عليه بِفداءٍ أو بغير فِداء فهو طَلِيق ، فممّن أُمتنّ عليه بفداءٍ كسُهيل بن عمرو ، وممّن امتنّ عليه بغير فداء أبو عَزّة الجُمَحيّ ، وممن امتنّ عليه مُعاوَضة أي أُطلِق لأنّه بإزاءِ أسيرٍ من المسلمين عَمْرو بن أبي سُفْيان بن حَرْب ، كلّ هؤلاء معدودون من الطُّلقاء .
قوله : «ولا الصريح كاللَّصِيق» ، إنّما أراد الصريحَ بالإسلام واللَّصيق في الإسلام ، فالصريح فيه هو من أسلَم اعتقاداً وإخلاصاً ، واللَّصيق فيه مَنْ أَسلَم تحتَ السيف أو رغبةً في الدنيا ، وقد صَرّح بذلك فقال : «كنتم ممّن دخل في هذا الدِّين إمّا رَغْبةً وإمّا رَهْبة» .
فإن قلت : فما معنى قوله : «ولَبئس الخَلَف خَلَفا يَتبَع سَلَفا هَوَى في نار جهنّم » ؟ وهل


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
172

۱۷

الأصْلُ:

۰.ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية جواباً عن كتابٍ منه إليهوَأَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ ، فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لَأُعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْس . وَأَمَّا قَوْلُكَ : إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلاَّ حُشَاشَاتِ أَنْفُس بَقِيَتْ ، أَلاَ وَمَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى النَّارِ .
وَأَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ والرِّجَالِ فَلَسْتَ ، بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ ، وَلَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الاْخِرَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُكَ : إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ ! فَكَذلِكَ نَحْنُ ، وَلكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِم ، وَلاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَلاَ أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ ، وَلاَ المُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ ، وَلاَ الصَّرِيحُ كَالَّلصِيقِ ، وَلاَ الُْمحِقُّ كَالْمُبْطِلِ ، وَلاَ الْمُؤْمِنُ كَالمُدْغِلِ . وَلَبِئْسَ الْخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ .
وَفِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ ، وَنَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ . وَلَمَّا أَدْخَلَ اللّهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً ، وَأَسْلَمَتْ لَهُ هذِهِ الْأُمَّةُ طَوْعاً وَكَرْهاً ، كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ ؛ إِمَّا رَغْبَةً وَإِمَّا رَهْبَةً ، عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ ، وَذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الْأُوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ؛ فَـلاَ تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً، وَلاَ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً، وَالسَّلاَمُ.

الشّرْحُ:

يقال : طلبتُ إلى فلان كذا ، والتقدير طلبتُ كذا راغباً إلى فلان ، كما قال تعالى : «فِي تِسْع آيَاتٍ إلَى فِرْعَوْن» ۱ أي مُرسلاً .

1.سورة النمل ۱۲ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 5779
صفحه از 800
پرینت  ارسال به